الكرسي الأنطاكي المقدس .. تاريخ من نور
لكرسي الأنطاكي ليس فرعا. الكرسي الأنطاكي عنده تراث وعنده إسهامه المسيحي وهو أساسي واجب علينا نبش تاريخنا.
.. وان نقلع عن التغرب عن أنفسنا وعن بعضنا البعض وعن المنطقة نحن أصليون ولسنا غرباء “”إن روح أنطاكي روح رسولي، اندفاعي شأنه شأن في العجين، لا يتقيد بالعدد بل ينطلق من الكم إلى الكيف. ويريد أن يزرع الفضيلة والصدق في منطقتنا الحبيبة..”
(اغناطيوس الرابع .. مواقف وأقوال)
في اليوم التاسع والعشرون من شهر حزيران من كل عام يحتفل أبناء الكرسي الأنطاكي المقدس بتأسيس كنيستهم الرسولية، (بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس) وأيضا يصادف هذا النهار عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس مؤسسي الكرسي الأنطاكي.
كانت بلادنا ( بلاد الشام ) مهد المسيحية وقد حافظت مدة طويلة على أهمية مقامها الديني وامتازت عن غيرها بأنها كانت مركز شعاع ديني وثقافي ومنبع الطقوس، ومن هذه المراكز أو المدن المشعة كانت أنطاكيا، دمشق، صور، بيروت وغيرهم من المدن الساحلية.
أنطاكيا:
كانت أنطاكية المقر الثاني للمسيحية بعد أورشليم لذا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار الرسل إلى هذه المدينة الذين يحملون معهم شعاع البشارة من أورشليم فينهدون إليها جماعات والأفراد.
يشجعهم الأمل والرجاء على إيصال البشارة المسيحية إلى أهل المدينة التي عرفت بثقافة أهلها وعلمهم وانفتاحهم وبحثهم عن الحقيقية.
إن أنطاكيا من مدن قليلة شرعت أبوابها ومجالسها وعقول علمائها وأذهان فلاسفتها ومعلمو مدارسها لأسباب الفكر والعلم والبرهان بحثا عن الحقيقة والخير والوجدانية والأزلية. اكتسبت أنطاكيا صفات مميزة وارتبط تسمها بأحداث وبتاريخ الإنسانية غيرت التاريخ وصححت مسيرة البشرية لعل هذه الأحداث ان أنطاكيا استقبلت تلاميذ المسيح بعد ان اضطهدوا وظلموا وخاصة بعد استشهاد استفانوس وبين الذين انتقلوا من أورشليم إلى أنطاكيا كان عدد من أهل قبرص والقيروان فبشروا بالمسيحية سكان أنطاكية ( أعمال الرسل 11: 19 – 20 ). فآمن عدد كبير ودخلوا في المسيحية.
لما انتشر هذا الخبر وازداد السكان المسيحيين الجدد،أرسل بطرس برنابا إلى أنطاكيا لتعزيز الكنيسة الأولى في أنطاكيا، أيضا جاء إلى أنطاكيا شاوول ( بولس الرسول ) حيث كان موجودا مع برنابا، بعد الجولة الأولى حيث جاء من أورشليم مسيحيون من أصل يهودي. وأقام بطرس الرسول في أنطاكيا عاملا في ترسيخ وتوطيد المسيحية وأسهم في تكثيف وتقوية صلات بين المسيحيين في أنطاكيا. وتعتبر كنيسة أنطاكية الرسول بطرس أسقفها الأول، وقد اتخذها الرسول بولس قاعدة أسفاره التبشيرية منها ينطلق واليها يعود. ومنها أطلق أو دعي المؤمنين لديانة الجديدة “مسيحيين” ودعوا بهذا الاسم حتى اليوم. ومن أنطاكيا انتشرت المسيحية إلى مدن أخرى قريبة وبعيدة.
هكذا انتظمت حياة الجماعة الأولى إلى قدر مقبول من أنطاكيا في القرنين الأول والثاني من مختلف النواحي المدنية والاجتماعية والحياتية. إلا أن اللافت فيما هو المنحى الثقافي البشري الكتابي الذي ترجم بنشء مدرسة لاهوتية أنطاكية مشهورة. من هنا بدأت حركة التدوين تنشط وانصرف الإنجيليون كاتبي السيرة الإلهية إلى كتابة أناجيلهم، إلى جانب السيرة الإنجيلية كتبت في أنطاكيا سير الرسل مثل ما فعل بولس ويعقوب وأحيانا بطرس الذي كان يملي ويروي بدل أن يكتب فأصبحت أنطاكيا مدينة تشع بالعلم والمعرفة والإيمان بحيث انطبعت هذه الصفات في الأنطاكيين. قال صاحب الغبطة اغناطيوس الرابع ( هزيم ) : ” … إن الكرسي الأنطاكي قد اتصف دائما بشجاعة، بالمبادلات، بالمواجهة وبشخصيته المتميزة. لم تطبعه مسيحية ما، من أية ناحية، أكثر مما طبعها هو بالذات ..” ( اغناطيوس الرابع – مواقف وأقوال(.
دمشق:
حظيت دمشق بنعمة بالدعوة المسيحية بعد أورشليم حتى إنها يقال سبقت أنطاكيا ودليل هو ف ارتداد بولس الرسول الذي وقع في السنة الثالثة بعد صعود الرب، وفي سنة استشهاد القديس استفانوس، فرفض بولس استلام الرسائل من رؤساء كهنة اليهود ليلقي القبض على المسيحيين في دمشق كما ورد في سفر( أعمال الرسل 9: 1 – 2 ) لعلمه بوجود مسيحيين الذين اعتمدوا في أورشليم وقت حلول الروح القدس على التلاميذ فغادروا إلى دمشق ( العربية ) يبشرون بالمسيح.
في دمشق أيضا لقي بولس حنانيا الذي عمده ( أعمال الرسل 9: 18) والتلاميذ الذين مكث معهم، فقام بولس في دمشق أيام كثيرة ( أعمال الرسل 9: 23( مبشرا بالمسيح بين يهود المدينة، فنقموا عليه ولولا الأخوة الذين خلصوه من أيديهم لكانوا قتلوه ( أعمال الرسل 9: 25 ). ثم جاء ثانية إلى دمشق مبشرا كما يخبرنا هو في رسالته إلى أهل غلاطية ( 1: 17 (.
من آثار المتبقية من زمن المسيحية الأولى في دمشق معبد القديس حنانيا وبيت يهوذا الطرسوسي قرب الباب الشرقي الذي نزل ضيفا القديس بولس يوم إقامته في دمشق ( أعمال الرسل 9: 11 ) حيث شيد المسيحيون هناك كنيسة قديمة ذكرها كوارزميوس في القرن السابع عشر، كان المسلمون حولوها إلى مسجد وقد بقي منها قطع من الفسيفساء.
لا نعرف شيئا مما حل بالمسيحيين في دمشق قبل عهد قسطنطين الكبير، من المؤكد نال المسيحيين الدمشقيين نصيبا من الاضطهادات والعذابات من قبل الحكام الرومانيين الوثنيين. ولكن لم يستطيعوا ان يقضوا على مسيحية دمشق بعد أن تنصر حاكمها فيليبس العربي في منتصف القرن الثالث ، وهو المولود في عمدان ( اوسابيوس القيصري(.
عاد السلام إلى دمشق أيام قسطنطين الكبير فازداد المسيحيون وازدهر بناء الكنائس في عهده وعهد ابنه فكان عناك كنيستين كبيرتين وكان يرعاهما أسقف يدعى مغنوس الذي ورد اسمه بين آباء مجمع النيقاوي سنة 325، أيضا حضر مع الوفد الأسقفي مجمع في أنطاكيا سنة 340.
ومن أساقفة دمشق أيضا أسقف فيلبيس الذي حضر مجمع القسطنطينية 380 ويوحنا مجمع افسس 431 وثاودورس مجمع خلقيدونية 451 واستاتيوس مجمع القسطنطينية الثاني 553. يذكر ابن عساكر انه كان في دمشق خمس عشرة كنيسة للمسيحيين وجدها العرب عند فتحهم دمشق.
كانت للكنيسة الكاتدرائية الكبرى امتيازات ممنوحة لها الحماية أو الحرم للذين يلتجئون إليها الجناة فلا يجوز قتلهم أم إيذاءهم طالما يأوون إليها. ومن أشهر قدسيها : يوحنا الدمشقي، صفرنيوس أسقف أورشليم،اندراوس أسقف كريت، بطرس من ميومة، يوسف الدمشقي.
صور :
لم تدخل المسيحية في لبنان دفعة واحدة ودون صعوبات، بل انتشار المسيحية بدأت من المدن الساحلية وخاصة من صور. كان لبنان في الأيام المسيحية الأولى ضمن إقليمين كنسيين : إقليم فينيقية البحرية، مركز أسقفيتها مدينة صور وإقليم فينيقية لبنان، مركز أسقفيتها حمص. وكان الإقليم الأول يشمل الساحل الممتد من مدينة عكا في فلسطين حتى عكار في شمال لبنان. والثاني يشمل السفح الشرقي من سلسلة جبال لبنان الشرقية والبقاع والسفح الغربي من سلسلة جبال لبنان الغربية إلا انه سلخ منه مدينة حمص.
من المعلوم إن كنيسة صور هي أولى الكنائس التي أنشئت بعد أورشليم،لان مؤمنيها كانوا قد ظهروا من رباطة الجأش والثبات في الإيمان ما أدهش القديس بولس نفسه. وما مضى على رجم القديس استفانوس بضعة أعوام حتى كثر عددهم، ون الصوريين أنفسهم، ومن اللاجئين إلى تلك المدينة هربا من الاضطهاد. مما جعل الرسل أن يقوم فيها أسقفية مركزية فأصبحت على ممر الأيام مرجعا لأربعة عشر كرسيا أسقفيا. من أساقفتها المشهورين : كاسيانوس الذي حضر مجمع قيصرية فيليبس عام 190 الذي بحث في قضية الفصح، وزينون الذي حضر مجمع القسطنطينية الأول.
وحين كان القديس بولس عائدا إلى أورشليم بعد سفرته الأولى إلى سورية الشمالية ألحّ عليه مؤمنو صور أن يعدل عن فكره لان أعداء الإيمان ينتظرون قدومه ليمتيوه. فشكر لهم عواطفهم الشريفة غير انه بقي مصرا على عزمه فانقادوا لإرادته. لكنهم شيّعوه إلى شاطئ، وقبل ان يركب السفينة جثوا أمامه طالبين بركته وصلاته. كذلك القديس لوقا التقى في صور بتلاميذ كثيرين أدهشته قوة إيمانهم.
مما جعل الصوريين يحافظون على وديعة الإيمان مرور الرسل بمدينتهم، فكانوا يقضون بضعة أيام فيصور ليحضوا المؤمنين على السلوك بما يفرض عليهم إيمانهم، ويكسروا لهم خبز الكلمة، ويثبتوهم في الإيمان، وينشطوهم للوقوف في وجه المضطهدين، هناك الكثير من الشهداء الذين استشهدوا أشهرهم : الأسقف تيرانيوس ومثوديوس.
في صور بنيت أجمل كنيسة كاتدرائية كبيرة، دمرت سنة 303 ثم أعاد بناءها يولينوس الأسقف،( راجع جريدة النهار 11 كانون الثاني و 2 شباط من عام 1996( ويوم تدشينها خطب اوسابيوس أسقف قيصرية معددا أمجادها. وفي سنة 518 التأم مجمع فيصور في الكاتدرائية رئسه ابيفانيوس رئيس الأساقفة لمحاكمة ساويروس.
في عام 636 خربت صور المسيحية ودمرت معالمها المسيحية وانقطعت أخبار المسيحيين فيها. ومما يلفت النظر في أهمية كنسية صور القديمة ومكانتها، النزاع الذي حصل بين الأسقف فوتيوس أسقف صور، وافكاتيوس أسقف بيروت الذي أراد أن ينتزع حق التقدم لأسقفية صور على كل الساحل الفينيقي من صور إلى طرطوس، ورفع النزاع إلى حكم المجمع المسكوني الرابع في الجلسة الرابعة من 17 تشرين الثاني 453. وبناء على كل ذلك نشأ، في التقليد الأنطاكي، ان مطران صور وصيدا هو الذي يسلم عصا الرعاية إلى البطريرك الأنطاكي المنتخب، وان يكن احدث المطارنة سنا ورسامة.
في صيدا تكونت جماعة من المؤمنين زارها الرسول بولس يوم قذفت الريح سفيته إلى شواطئ صيدا، حينما كان مسافرا إلى روما. فأقام مدة قصيرة في صيدا، تأكد أثناءها انه مضى عليهم عشرون سنة وهم ثابتون على إيمانهم فسرّ بهم سرورا عظيما. كان أسقفها ثيودورس قد حضر المجمع المسكوني الذي انعقد في نيقية سنة 325. وفي صيدا عقد مجمع ضم 80 أسقفا هرطوقياً ليحرموا المجمع الخلقيدوني وحاولوا أن يعزلوا فلافيانوس بطريرك أنطاكية ويجلسوا موضعه سايروس الدخيل، تلميذ مدرسة الحقوق في بيروت. ومن شهداءها يذكر منهم زينوبيوس الكاهن الطبيب. وفي سنة 551 نقلت إليها مدرسة الحقوق البيروتية بعد أن دمر الزلزال بيروت. فنالت شهرة مدة 80 سنة.
بيروت:
القديس اقليموس تلميذ الرسل يقول أن الرسول بطرس نزا إلى بيروت وشجع الشعب على طرد سمعان الساحر وأيضا أسس فيها اسقفية ولّى عليها كدراتوس احد السبعين تلميذا، ويقال أيضاً أن القديس يهوذا الملقب بتدواس ( محمود ) قد استشهد فيها. وتعد بيروت مسقط رأس القديس بمفيلوس العالم الشهير الذي خلف اوريجانوس في إدارة مدرسة الإسكندرية وأسس مكتبة شهيرة في قيصرية فلسطين استشهد سنة 308، ومن شهداء بيروت القديسان يوحنا واركاديوس وافيان من نقيقية احد تلاميذ مدرسة الحقوق وأيضاً من تلاميذ مدرسة الحقوق القديس غريغوريوس العجائبي وأخيه ثيودور والقديس اثيندروس ومن أشهر أساقفتها هو غريغوريوس من آباء المجمع النيقاوي وتيموثاوس الذين وافقا على المجمع القسطنطيني الأول 382.
إما في جبيل ( بيبلوس ) التي أنشأ فيها القديس بطرس الرسول كنيسة، وسقّف عليها رفيقه وتلميذه يوحنا مرقس. وممن خلفوه على كرسي هذه المدينة باسيليوس الذي حضر مجمع القسطنطينية الأول 380، وروفينوس احد آباء المجمع الخلقيدوني 451، وبنالّوس الذي ساهم في مجمع أنطاكية 445، وتوادوسيوس الذيشهد المجمع المسكوني الخامس 553. ومن أشهر شهداء مدينة جبيل الشهيدة اكيلينا التي تقدمت إلى الاستشهاد من أجل المسيح في عمر لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرها سنة 293.
من المدن المسيحية القديمة المهمة، مدينة البترون ( لبتريس ) من أساقفتها بورفيريوس الذي حضر المجمع المسكوني الرابع واستفانوس الذي حضر المجمع المسكوني الخامس، من شهداء القديس لوقيوس أو لوجيوس، المعروف شعبيا باسم ” نوهرا “. ومن المدن التي زارها الرسول بطرس مدينة طرابلس من اساقفتها هلانيكوس وثيودوروس ومن شهداء مغدلتيوس ولاونديوس الجندي.
هكذا دخل الكرسي الإنطاكي تاريخ المسيحية من أبوابه الواسعة، بحيث تخطى الإيمان المسيحي حدود العالم، فظهرت الكنائس في كل مكان فامتدت من شرق الفرات إلى بلاد فارس وصولا إلى الصين والهند.
من الواضح أن الجماعة المسيحية الأولى في أنطاكيا كانت نقطة أو بداية انطلاق ومسؤولية حمل البشارة إلى العالم، على أساس الإيمان والعماد باسم المسيح وحده.
هذا الكرسي الإنطاكي فيه عمق روحي وتجذر تاريخي وأفق روحي وحضاري وإنساني، عمق هذا الكرسي إلى السماء وأيضا هذا الكرسي فيه تجذر في المسيحية منيع عريق في التاريخ والحضارة.
“… سيتعلم العالم من الكرسي الأنطاكي إن الروح القدس واحد وانه يوحّد، وانه ليس على الإطلاق واسطة يمحو بها الإنسان أخاه الإنسان ” ( اغناطيوس الرابع .. مواقف وأقوال (.
لذلك الكرسي الأنطاكي من أولوياته التقارب والتلاحم المسيحي الإسلامي، المسيحيون العرب والمسلمون العرب هم في موقع واحد في تاريخ واحد، في مصير واحد، في الوقفة واحدة تحت مظلة اله الواحد الأوحد. لعل هذا يحقق حلم القديس باسيليوس الكبير فينا، لما كتب للقديس اثناسيوس الكبير: “ما عسى أن يكون لكنائس الأرض شيء أكثر حيوية من أنطاكيا”.