الشاب الغني والصبية الغنية
ما الفارق بين الدين والاخلاق
الاحد الثالث عشر من لوقا
(الشاب الغني )
النص الانجيلي : لوقا (18: 18-27)
“في ذلك الزمان دنا إلى يسوع إنسان مجرباً له وقائلاً أيها المعلم الصالح ماذا اعمل لأرث الحياة الأبدية* فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً وما صالحٌ إلا واحدٌ وهو الله* انك تعرف الوصايا لا تزن. لا تقتل. لا تسرق. لا تشهد بالزور. أكرم أباك وأمك* فقال كل هذا قد حفظته منذ صبائي* فلما سمع يسوع ذلك قال له واحدة تعوزك بعدُ. بع كل شيء لك ووزعه على المساكين فيكون لك كنزٌ في السماء وتعال واتبعني* فلما سمع ذلك حزن لأنه كان غني جداً* فلما رآه يسوع قد حزن قال ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله* انه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيٌ ملكوت الله* فقال السامعون فمن يستطيع إذن أن يَخلُصَ * فقال ما لا يُستطاعَ عند الناس مُستطاعٌ عند الله. ”
العظة :
باسم الآب والابن والروح القدس ، آمين
” لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لانه بذبائح مثل هذه يسرو الله”
( عبرانيين 13: 16)
ايها الاحباء: في انجلينا اليوم ، الشاب الغني” فنظر إليه يسوع وأحبه وقال له يعوزك شيء واحد، اذهب بع كل مالك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب” (مر 10 : 21).
لا يستطيع أي إنسان على الأرض مهما بلغ من عمق علمه وثقافته وغناه أن يكشف عما فعلت هذه القصة في حياة الناس، ويمكن أن تتتبع آثارها العظيمة حتى الآن، اذ هذه القصة اثرت كثير في الناس وتأثروا بها.
ألم يذهب القديس أنطونيوس إلى الكنيسة، ويسمع عظة عن الشاب الغني فيتأثر بها، ويقرر أن يوزع كل ما يمتلك، ماعدا شيء صغير يبقيه من أجل أخته؟ ثم يعود مرة أخرى إلى الكنيسة ليسمع القول : «لا تهتموا للغد» وتؤثر فيه الكلمة فيوزع القليل الذي لأخته، حتى تضحي كاملة مثله!! ألم يتأثر بها القديس باسيليوس الكبير، فيتخلى عن ثروته الطائلة، ويخرج إلى الخدمة ليخدم السيد؟!.
إن قصة الشاب الغني قصة قوية عميقة كالسيف القاطع الذي يصل إلى الاعماق البعيدة في امتحان الحياة وفحصها، لقد أحب المسيح الشاب الغني لأنه ملك هذا الشاب أوصافًا قل أن تجتمع في شاب واحد، ومن ثم يصح أن يكون نموذجًا لأي شاب ولكن المسيح أيضًا، لم يتردد في كشف العائق او الحاجز الرهيب الذي فصل الشاب بان يكون فعلا شاب مثاليا.
لقد ركض إلى المسيح، فكشف له المسيح الشيء المخفي الذي كان غائبًا عن حسه وإدراكه ومعرفته، بمعنى أنه كان قصير النظر، مخدوع الرؤيا، متعجل الحكم، متسرع التصور. وقد ظهر هذا من خلال ما يختص بالمسيح من جهة ومن جهة اخرى بما يختص بشخصه.
لقد ركض الشاب إلى المسيح ودعاه المعلم الصالح، وقال له المسيح : «لماذا تدعوني صالحًا» وهو لا ينفي بذلك عن نفسه الصلاح فقد دعا نفسه الراعي الصالح، ووقف يتحدى اليهود قائلاً : من منكم يبكتني على خطيئة، وهو نبع الصلاح ومصدره بكل ما في كلمة الصلاح من معنى.
وعندما نسب الشاب إلى المسيح الصلاح لم يكن في نظره أكثر من نبي، هذا يعني ان الشاب اطلق بسرعة الحكم على يسوع بانه نبي فقط دون ان يدخل الى عمق داخل يسوع وايضا وقع الشاب في عدم فهم الفارق والتمييز بين الاخلاق والدين،اعتقد ان الدين هو فقط ممارسة الاخلاق وحفظ الوصايا.
لقد مد المسيح بصره إلى أعماق الشاب، وأدرك أن مشكلته الحقيقية أنه لا يعرف نفسه، وأنه يفهم الوصايا فهمًا أخلاقيًا فقط، الأمر الذي يتصوره الكثير من المسيحيين عن الدين.
كان الشاب لا يدرك ولا يعرف عمق تعلقه بالمال، فكشف له المسيح عن الضعف القاتل فيه، ولم يكن عيب الشاب في طريقة تحصيل المال، لكن عيبه القاتل، كان في توزيع المال، أو بالحري في مكانة المال من قلبه،
المشكلة ليس في المال انما مكانة المال في حياة الشاب وسيطرة المال على حياته ، الى درجة يصعب على الشاب توزيع المال على الاخرين لهذا كان المال عزيزا جدا على قلب هذا الشاب.
وبالتالي فإنه كان عليه أن يدرك بالامتحان الذي وضعه المسيح أمامه – أن الله لا يأخذ في الحقيقة المكان الأول في قلبه، كان الشاب يظن أن الله هو الأول في حياته وليس المال، فكشف له المسيح أن الله قد يكون له مكان في حياته، لكنه ليس المكان الأول، بل يأتي تاليًا أو على مسافة بعيدة من المكان الأول الذي يحتله المال.
إن هذا الوضع يكشف لنا عن الفرق والفاصل بين الدين والأخلاق، إن الدين هو أن يكون حب الله هو الأول والآخر في الحياة، وكل ما ينبع من هذا الحب، هو أعلى شيء في الحياة.
الأخلاق مهما علت وسمت في معايير الناس، لا يمكن أن تضع الإنسان في مكانه الصحيح،هناك اخلاقيات لا تقربنا الى الله ولا تربطنا به اي علاقة او شركة ولاتعلمنا شيئًا عن الحياة الأبدية.
لذا كان المسيح في جوابه للشاب مثل السيف القاطع لا مساومة ولا مهادنة بين الدين والاخلاق.
ومن الملاحظ أن السيد المسيح وضع الصعوبة أمام الشاب، ولكنه لم يتركه لمواجتها، إذ أعطاه طريق الانتصار في القول : «اتبعني» أو في لغة أخرى أن المسيح لا يمكن أن يترك الشاب في الفراغ بعد أن يوزع كل ثروته، بل ستتحول شركته مع المسيح، إلى ثروته الحقيقية، وسيعطيه المسيح ذلك الغنى الروحي.
كان الشاب يعتمد على «المال» أو في لغة أخرى يعتمد على «شيء» ولكن المسيح شاء في جوده وإحسانه أن يحوله إلى الاعتماد على «شخص» هو مصدر كل شيء، وضامن كل شيء، الا وهو المسيح .
المسيح كفيل بسد كل أعوازه، ورعايته إلى الدرجة التي يمكنه معها أن يقول و يغني مع نبي داود : «الرب راعي فلا يعوزني شيء» (مز 23 : 1).
ولو أن الشاب سمع بحكمة واصغى السمع، وقبل الامتحان، وسار كما طلب السيد لتحول الامتحان الى عرس وفرح وليس حزنا .
المفارقة اننا في هذا اليوم المبارك اذ تعيد الكنيسة المقدسة لصبية غنية جدا ايضا وفائقة الجمال والجاه والنسب وهي القديسة العظيمة في الشهداء كاترينا .
ولدت القديسة كاترين من أبوين مسيحيين غنيين بالإسكندرية. كانت تتحلى من صغرها بالحكمة، وكانت مثابرة على الاطلاع والتأمل في الكتاب المقدس. ولما بلغت الثامنة عشر كانت قد درست اللاهوت والفلسفة واللغات.
فعرفت روعة المسيحية وتقدم كثيرون يطلبون الزواج منها فلم ترض بأحد منهم، ولما نفذ صبر أمها وكانت مسيحية واحتارت في أمر ابنتها، استعانت بناسك قديس ، فقال لها الناسك انه يعرف رجلاً أنبل من كل أهل الأرض بما لا يقاس وله سلطان على الكون برمته وقد خلق العالم بقدرته الذاتية، وهو أيضاً يريد عروساً بتولا له ، قال لها الناسك ذلك وصرفها وعادت كاترينا إلى بيتها متحيرة متأملة في قلبها وفي نفسها شوق للقاء ذلك العريس كما وصفه لها الناسك.
وفي الليلة نفسها رأت كاترينا والدة الإله وابنها يسوع، لكن الرب يسوع رفض أن ينظر إليها لأنها كما قال كانت بشعة طالما ،اضطربت كاترينا لهذا الحلم وعادت إلى الناسك فعلمها وعمدها ورأت ليلتها يسوع يقول لها: “ها هي كاترينا الآن مشرقة وجميلة، غنية ومزدانة بالحكمة والحق، الآن اقبلها عروسة نقية”. ولكي تختم والدة الإله خطبة كاترينا السماوية أخذت خاتماً ووضعته في إصبعها، واوصتها بألا تقبل عريساً آخر لنفسها غير الرب يسوع.
علم الإمبراطور بوجود شابة ذكية وحلوه اراد ان يتزوجها فرفضت وفشل في تعذبيها و أمر بقطع رأسها ، وقد تم ذلك في مثل هذا 25 نوفمبر (سنة 307م)
ماذا نتعلّم منها نحن الذين نُكرّمها اليوم؟ نتعلّم منها شيئين. الشيء الأول، أنَّها بالرّغم من جمالها، ومن مالها، وغِناها، سَخَّرَت كلّ ذلك في سبيلِ إيمانها. هذا ما نأخذه درسًا نحن المؤمنين، أن نُسَخِّرَ نحن عِلمَنَا، وثقافَتَنَا، ومالَنَا، ومركَزَنا، من أجل الكنيسة والإيمان، لا أن نُسَخِّرَ الكنيسةَ من أجل مَصَالِحِنا الخاصَّة، هذا ما تُعلِّمُه إيّانا القديسة.
الشيء الثاني، الذي نستفيدهُ من حياتِها، أنّها واجهت عبادة الأصنام.فهذا ما يُعلّمنا اليوم أن نواجه بإيماننا الوثنية الجديدة، ماذا يَسْتَعْبِدُ الناس اليوم؟ يَتَعَبَّدُون للمال، يَتَعَبَّدُون للجاه، والمظاهر الفانية، يَتَعَبَّدُون لشهوة الجسد. الإنسان المؤمن، لا يستعبدُه شيءٌ، غير الله. هكذا نحن إذا أحبّينا هذه القدّيسة علينا أن نتشبَّه بها، ونتمسَّك بإيماننا، وبكنيستنا، فنحصل على الجمال الحقيقي، على المال الحقيقي، على الكرامة الحقيقيَّة، آمين