مقدمة:
تحديد "القانون الكنسي": لا بد من تحديد عبارة " القانون الكنسي " لنعرف ما إذا كانت له منزلة في " تدبير الروح " في زمن الكنيسة . ابتغاء ذلك يجب أن نتبع مدلول القانون هذا لغة واصطلاحا .
لغةً: يقول يوحنا زوناراس[1] في شرحه رسالة القديس اثناسيوس الكبير الرعوية "حول kanon – قانون تدل على قطعة خشبية يستخدمها الصنّاع في تقويم الخشب أو الحجر، إذ يقومون بوضع هذا " القانون " على قطعة الخشب أو الحجر وبه يقوّمون ما تحدب منها أو تقعّر أو تعوّج، بذلك تنتظم القطعة في شكلها .
هكذا انحدر مفهوم كلمة kanon – قانون في اليونانية – فعنت مقياسا . هذه الكلمة اعتمدت في لغة القانون الكنسي لتدل على كل مقياس وضعته السلطات الكنسية المختصة من أجل تنظيم حياة الكنيسة داخلية كانت أم خارجية .
إصطلاحا: أما مدلولها الاصطلاحي في المسيحية فنراه عند بولس الرسول إذ يتكلم عن قاعدة السلوك: " كل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة " ( غلاطية 6: 16 ) . وأطلق القديس إيريناوس أسقف ليون عبارة " قانون الحق " على دستور الإيمان في المعمودية . ويقال قانون الإيمان . وإقليمس الاسكندري يستعمل عبارة " قانون الكنيسة " ليشير إلى التوافق بين العهدين القديم والجديد . ويدل " القانون الافخارستي " على مجموعة القواعد التي تسوس إقامة الذبيحة الإلهية . والقانون الكتابي هو لائحة الكتب المقدسة من العهدين القديم والجديد وان إجماع الكنيسة بإرشاد الروح دلّ على هذه المجموعة .
والمسلك الذي يتبعه الاكليروس والرهبان هو قانونهم ( إيرونيموس المغبوط . الرسالة 15، 2 . القديس كاسيانوس: النظم 2، فصل 2، 1 ) ويقال عندنا " مرتل قانوني " ( مجمع اللاذقية 15) .
واستعمل المجمع النيقاوي اللفظة للدلالة على الأعراف السابقة له واعتبرها تراثا ( قوانين المجمع الأول 2 ،5 ،6 ، 9 ، 1. ، 15 ، 16 ، 18 ) وجاء المجمع الثاني يطلق اللفظة على ما سنّه المجمع الأول حتى صارت الكلمة تدّل على كل ما سنّته المجامع المسكونية والمكانية القديمة والذي تتقيد به الكنيسة الجامعة .
فلكي يكون المقياس الصادر عن السلطة الكنسية المختصة قانونا، وبالتالي إلزامية في الكنيسة الجامعة، يجب أن يحمل مظهرا عاما وكاملا معبرا عن حقيقة ما تكمن قاعدتها في الأسفار المقدسة أو التقليد الشريف . هذه الحقيقة يجب أن تكون موضوعا يهم الكنيسة الجامعة . وفي غياب أحد هذين المظهرين لا يعتبر المقياس قانونا .
لذا ظهرت مقاييس وضعتها المجامع المكانية والمسكونية ومن ثم ظهرت أيضا مقاييس وضعها الآباء القديسين . وهذه المقاييس تشكل مضمون المجموعات الكنسية الجامعة، تدهى بالمعنى الحرفي للكلمة قوانين .
إن القوانين إلزامية لجميع أعضاء الكنيسة . وفكرة الإلزام هذه أوضحها نص القانون الثاني من مجمع ترولو( الخامس – السادس ) والقانون الأول من المجمع المسكوني السابع .
إلزامية القوانين غير مشروطة بمشرّعها، بل بقبول الكنيسة الجامعة لها وتثبيتها . فكل قانون قبل في هذه القوانين يحمل إلزامية بغضّ النظر أن كان قد صدر عن مجمع مسكوني أو مكاني أو عن أحد الآباء القديسين .
المصدر الأساسي والأول الذي تقوم عليه كل هذه القوانين يكمن في الأسفار المقدسة والتقليد الشريف . فعندما أسس الرب يسوع كنيسته لم يترك لها أية مجموعة تشريعية تنظّم بموجبها حياتها، بل منحها بتعاليمه الأسس التي سيتعمدها الروح القدس في متابعة قيادته لها.
إن أول مفسّري الأسفار المقدسة والتقليد الشريف في الكنيسة هم الآباء القديسون الذين اجتمعوا في مجامع مكانية كانت أم مسكونية . مثل هذه المجامع كانت تحمل أهمية مكانية تهم كنيسة أو أخرى . ولكن هناك قرارات وقوانين مجامع مميّزة تتعلق بالكنيسة الجامعة إيمانيا وسلوكيا وهي المجامع المسكونية إضافة إلى عشرة مجامع مكانية تحمل قراراتها وقوانينها الصفة الإلزامية في الكنيسة الجامعة[2].
· قوانين القديس باسيليوس الكبير:
من يقرأ حياة هذا القديس التي هي حياة واقعية صحيحة خطها معاصروه ومعايشوه مثل صديقه القديس غريغوريوس النزيانزي وشقيقه القديس غريغوريوس النيصصي، ويطالع ما خلّفه من الكتابات في حقول متنوعة، لا يتمالك من الإقرار بان القديس باسيليوس هو هبة منحتها السماء للأرض .
لقد اثبت باسيليوس وهو تلميذ في أثينا، ومدرّس في قيصرية كبادوكيا، وراهب في ديره، وكاهن وأسقف في قيصرية نفسها انه يتحلى بعقل نابغ وفكر متفوق وإرادة فولاذية وإدارة نيّرة وأدب إنساني وافر، واكتسب بهذا كله الاحترام والتقدير والمهابة عند الجميع حتى عند خصومه .
إن القديس باسيليوس هو فوق ذلك منظم دقيق ومشترع بعيد النظر وإداري حكيم، نظم الحياة الرهبانية المشتركة للرهبان الذين كانوا يعيشون قبله عيشة الانفراد والعزلة، وبعد أن طاف بلاد الشرق واطلع على طرق معيشة الرهبان هناك فكر في طريقة جديدة، وهي أن يجمع الرهبان في أديار تحت سلطة رئيس واحد .
ثم اختبر هذه الطريقة بنفسه وببعض أصدقائه وتلاميذه فنظمها وسنّ لها القوانين التي نرى فيها فكره الثاقب . فأصبح مؤسس ومنظم الرهبانية في الشرق وعنه اقتبس مؤسسو الرهبانيات في الغرب .
القديس باسيليوس الكبير هو الأكثر تدوينا للمصادر القانونية من بين آباء الكنيسة الجامعة، وهذا يعود إلى وسع أفق ثقافته التي كسبها من جامعات أثينا ومن لقاءاته مع مشاهير عصره النساك مثل القديس مكاريوس والقديس بافنوتيوس
كان صديقا حميما للقديس غريغوريوس اللاهوتي الذي تراجع معه في مكان منعزل عن العالم من أجل الزهد والنسك .
في العام 370 عيّن باسيليوس رئيس أساقفة قيصرية كبادوكيا وبسبب غيرته وحماسه في خدمة المسيح والكنيسة لقّي " الكبير " و " بهاء ومجد الكنيسة ".
في مجموعة القوانين الرسمية في الكنيسة الجامعة أدرج 92 قانونا للقديس باسيليوس الكبير. وجميعها مأخوذة من ثماني رسائل له ومن كتابه " حول الروح القدس " .
في المجموعة p وkp و sa نجد قانونا، وفي المجموعة c ( فصل 21 ) نجد 91 قانونا والسبب في ذلك هو أن خاتمة الرسالة الثالثة الموجّهة إلى امفيلوخيوس ( ق 85 في يقابل القانون 86 في sa، ق 86 يقابل 87 وهكذا .
في المجموعةIL نجد 85 قانونا . الرسائل الثلاث الأولى مقسّمة إلى 8. قانونا، وبذلك فالقانون 81 يقابل القانون 86 sa ومخ، القانون 82 مكوّن من الرسالة الموجّهة إلى الخورأساقفة، القانون 84 مكوّن من الرسالة الموجّهة إلى الأساقفة الخاضعين له .
المخطوط يحتوي على 93 قانونا . مقدمة الرسالة إلى ذيوذوروس أسقف طرسوس أدرجت كقانون ( 87 ) في حين أنها والقانون 88 ( مخ ) قد أدرجت في p و kp وsa في قانون واحد (87 ) .
هكذا اختبر باسيليوس بنفسه الحياة الرهبانية ومحصّها وأشبعها درسا قبل أن يقدم على وضع قوانين وأنظمة لها . إذ رآها ناجحة وقابلة الاستمرار، سنّ لها قوانينه المشهورة على طريق السؤال والجواب، والمعروفة في شكلين: مطوّلة وعدد سؤالاتها 55، ومختصرة وعدد سؤالاتها 313 .
ففي هذه القوانين نرى روح هذا الرجل العظيم تتجلى كمرآة صقيلة تعكس بأمانة وجلاء روح المسيح ورسله في الكتب المقدسة ونرى القداسة الباهرة التي بلغها والفضائل الكبيرة التي تأصلت في قلب ذلك المشترع .
هذه القوانين تبرهن عن فكره الثاقب وبعد نظره لأنها تحتوي فضلا عما يخص الرهبان بالتحديد، الأنظمة التي يتحتم على الرؤساء إتباعها في مل يخص قبول الطالبين من مختلف الأعمار والطبقات والأحوال الاجتماعية ( سؤال 11 و 12 من القوانين المطولة ) قد فتح فتحا جديدا في الكنيسة وهو . قبول الفتيان الصغار في الدير وتربيتهم تربية تتناسب مع سنهم وغاية دعوتهم ( سؤال 15 من القوانين المطوّلة ). فهذا الفتح الحكيم يعدّ حقا كأول إنشاء للمدارس الرهبانية والاكليريكية في الكنيسة .
· القوانين المطوّلة: تتضمن هذه القوانين المطوّلة على مقدمة طويلة وعلى خمسة وخمسين سؤالا وجوابا، تتمحور حول تنظيم الحياة الرهبانية وأصول المعاملة في تعامل الإخوة الرهبان مع بعضهم البعض .
مما جاء في المقدمة: " بما أننا بنعمة الله قد اجتمعنا معا باسم ربنا يسوع المسيح، نحن الذين قصدنا غاية واحدة بعينها وهي أن نعيش بموجب التقوى، وبما أنكم انتم قد أبديتم حسنا رغبتكم في أن يُلقى عليكم شيء مما يتعلق بالخلاص، واني إنا أيضا ملتزم بالضرورة أن أكرز ببر الله متذكرا ليل نهار كلام الرسول القائل:" إنني مدة ثلاث سنين لم اكفف ليلا نهارا عن أن انصح كل واحد منكم بالدموع " (أعمال الرسل 2.: 31 )، فأرى أن الوقت الحضر موافق جدا لهذا الغرض، " " … لم لا نضع نصيب عيوننا ذلك اليوم العظيم الرهيب الذي فيه يقام الذين عملوا الصالحات عن يمين الرب وينالون ملكوت السماء، ويحشر الذين عملوا السيئات عن اليسار فتقبلهم جنهم النار ويغشاهم ليل الظلمات الأبدية " وهناك يكون البكاء وصريف الأسنان " ( متى: 25: 3. ) …"
أيضا مما جاء في مقدمة القوانين المطوّلة: " … أي انه ينبغي لنا أن لا نهمل شيئا ولو يسيرا من الأشياء التي فرضت علينا بل يجب أن نتم كل شيء بموجب ما امرنا به . فانه قيل: " طوبى لذلك العبد الذي يأتي سيده يجده يعمل " ( لوقا 12: 43 ) .
… على أن أرى أن اختلاف أحوالنا من حيث الالتزام الشديد بالطاعة يكون على ثلاثة أنواع: فإما أن نقلع عن الشر خوفا من العقاب، وحينئذ ننقاد انقياد العبيد . وإما أن نحفظ الوصايا لأجل فائدتنا وابتغاء للأجرة، وحينئذ نضاهي الاجراء . وإما أن نقبل على الطاعة لأجل الصلاح نفسه وحبا لمن أعطانا الشريعة فرحين بأن حسبنا مستأهلين أن نخدم إلها هكذا مجيدا وصالحا، وحينئذ نكون في عداد البنين .
… ورب قائل يقول: أن كثيرا من المسيحيين لا يحفظون جميع الوصايا، أفلا ينفعهم شيئا حفظهم أبعضها ؟ – فنجيب: يحسن بنا لفهم ذلك أن نتذكر ما جرى لبطرس الرسول الذي بعد كل ما أتى من الأعمال العظيمة وكل مل سمع من الثناء والتطويب لأجلها، قد قيل له لأجل غلطة واحدة أتاها: " أن لم أغسلك فليس لك نصيب معي " ( يوحنا 13: 8 )
… اعلموا أنه كما أن التبشير ضرورة موضوعة علي " والويل لي أن لم ابشر "( 1كورنثوس 9: 16)، هكذا تكونون انتم تحت طائلة هذا الويل أن تهاونتهم في البحث أو تراخيتم وتوانيتم في حفظ مل يلقى عليكم من التعاليم وفي السلوك بموجبها “ .
السؤال الأول: في نظام الوصايا وترتيبها |
السؤال السادس:في لزوم العزلة والإنفراد |
السؤال الثالث عشر:في أن ممارسة الصمت مفيدة للمبتدئين |
السؤال السادس عشر:في الإمساك أي روح التضحية |
السؤال الخامس والعشرون: في لزوم وجود رئيس لكل جمعية |
السؤال السادس والعشرون:في كشف الأفكار للرئيس |
السؤال الثامن والعشرون:في طريقة تصرف الجمهور غير المطيع |
السؤال السابع والثلاثون:في عدم إهمال الأعمال بحجة الصلوات |
السؤال السادس والأربعون:في انه لا يسوغ أن نكتم زلات أخينا عنه |
السؤال الثاني والخمسون: في الاستعداد لقبول التأديب |
· عناوين الأسئلة التي تتمحور حول الشؤون الروحية:
عناوين الأسئلة التي تتمحور حول الشؤون التنظيمية
السؤال الرابع عشر: في الذين ينقضون نذورهم |
السؤال الخامس عشر: في أي سن يباح للمبتدئين أن ينذروا |
السؤال التاسع عشر: في قانون الإمساك |
السؤال العشرون:في الطعام الذي يقدّم للضيوف |
السؤال الحادي والعشرون:في الجلوس إلى المائدة |
السؤال الثاني والعشرون: في اللباس الذي يليق بالراهب |
السؤال الرابع والعشرون: في لزوم وجود رئيس لكل جمعية |
السؤال الثالث والثلاثون:في طريقة مقابلة الراهبات |
السؤال الرابع والثلاثون:في الوكلاء |
السؤال السادس والثلاثون: في الذين يخرجون من الجمعية |
السؤال الرابع والأربعون في الذين يسوغ أن يؤذن لهم السفر |
السؤال الخامس والأربعون: في نائب الرئيس |
السابع والأربعون: في الذين لا يذعنون لأحكام الرئيس |
السؤال الرابع والخمسون: في تفاوض رؤساء الاديار معا |
· عناوين الأسئلة التي تتمحور حول الشؤون السلوكية أو الأخلاقية
السؤال التاسع:في عدم ترك المقتنى لذوي القرابة |
السؤال الحادي عشر:في العبيد الأرقاء |
السؤال السابع عشر:في وجوب الإمساك عن الضحك |
السؤال الثامن عشر في لزوم التناول من كل ما يقدّم لنا |
السؤال التاسع والعشرون: في من يعمل بتشامخ أو تذمر |
السؤال الثاني والثلاثون:في طريقة التصرف نع الأقارب الجسديين |
السؤال التاسع والثلاثون:في بيع الحاصلات والمصنوعات الرهبانية |
السؤال الأربعون:في الأسواق التي تقام في الاحتفالات والأعياد |
السؤال الثاني والأربعون في الغاية التي يجب أن نقصدها حين نعمل أعمالنا |
السؤال الثالث والأربعون:في صفات وواجبات الرؤساء |
السؤال الثامن والأربعون: في انه لا يسوغ أن نفحص عن تدابير الرئيس |
السؤال الخمسون: في طريقة التوبيخ والتأديب |
السؤال الحادي والخمسون في طريقة علاج زلات المذنبين |
السؤال الثاني والخمسون: في الاستعداد لقبول التأديب |
السؤال الثالث والخمسون:في تهذيب معلمي الصنائع لتلاميذهم |
السؤال الخامس والخمسون في استعمال العلاجات الطبية |
· عناوين الأسئلة التي يتمحور حول الشؤون الرهبان
السؤال السابع:في فضل العيشة المشتركة على عيشة التوحد |
السؤال الثامن: في التجرد |
السؤال العاشر:في قبول الطلبة والمبتدئين |
السؤال الثاني عشر:في قبول المتزوج |
السؤال الثالث والعشرون:في لبس الزنار |
السؤال الثلاثون:في روح الخدمة في نفس الرئيس |
السؤال الحادي والثلاثون:في قبول خدمة التي يؤديها الرئيس |
السؤال الخامس والثلاثون: في عدم اقامة عدة أديار في بلدة واحدة |
السؤال الثامن والثلاثون:في الصنائع الموافقة للحلة الرهبان |
السؤال الحادي والأربعون:في السلطة والطاعة في الأعمال والصنائع |
السؤال التاسع والأربعون: في المباحثات التي تحدث بين الإخوة |
|
محبة الله تتواجد مع محبة القريب . وهذا ليس بسبب الأمر الإلهي بل بسبب طبيعة الإنسان نفسها . فقد خلق الله الإنسان كائنا اجتماعيا، فمن الطبيعي أن يحس الراهب بحاجة الآخرين ويشعر ببؤسهم ويرأف لشقائهم ومن الطبيعي أن الراهب في النظام الباسيلي لا يعيش لنفسه، لذا استلزم القديس باسيليوس أن تكون محبة للقريب ضمن إطار الجماعة .
لذلك خرج القديس باسيليوس عن النهج العام للحياة الرهبانية الشائع في عصره، فجعل الحياة الرهبانية إشعاعا يصل إلى أبعد حد، وعطاء وبذلا يطال كل محتاج وبائس . وهذا ما تحقق فعلا في المشروع الضخم الذي سمّاه البعض مدنية المحبة، والذي قام في قيصرية بسعي القديس باسيليوس والذي ضمّ مدرسة، ومستشفى، ومدرسة مهنية وغير ذلك[3].
ولكن إذا كان القديس باسيليوس قد شدّد على محبة القريب وعلى ضرورة إشعاعها، لا ينسى أن يذكر الشروط الضرورية لمثل هذا العطاء . لا بد أن يكون الراهب قد بلغ إلى كمال يتيح له الخروج من الدير بسهولة وطمأنينة، ومن العمل المفيد للغير .
يعدّد القديس بعضا من الأعمال التي يمكن ممارستها في مجال محبة القريب فيذكر الكهنوت أو تلك الأعمال .فهو موهبة تعطى للبعض فقط لخدمة الكنيسة، وليس للجميع . ثم يذكر الوعظ في المدن والقرى للتبشير بالإنجيل ولدعوة الجميع إلى السلوك في طريق الكمال، ثم الإرشاد ثم الكتابة والتأليف، وتربية النشء وتعليم الإحداث .
أن المجال واسع لخدمة الغير، وبها يعوّض الراهب عن ولادة الأولاد الجسديين وعن عذوبة الحياة العائلية، فيلد بالمحبة للقريب أولادا روحيين كثيرين يغدق عليهم كل حنان ومحبة
ويمارس الرحمة التي ذكرها الإنجيل، لكن لا بد للنظام الرهباني أن يحدد الطريقة الفضلى للمارستها والقيام بها على أحسن وجه[4] .
بهذا أكون قد استعرضت بشكل سريع وباختصار شديد رؤية القديس باسيليوس الكبير للحياة الرهبانية من خلال قوانينه المطوّلة الشريفة .
· القوانين المختصرة: أن انتشار قوانين القديس باسيليوس لم يمنع الاديار من السقوط في الفتور والانحلال . أن بعض الاديار فسدت وفتر رهبانها وأصبحوا دعاة بدع وضلال وحملة ثورة ضد الكنيسة . لذلك ألحّت المجامع المسكونية والخاصة في الشرق على الرجوع إلى قوانين القديس باسيليوس الكبير الأصلية والتقيّد بها، وعملت على شرخها . لكن مع الزمن ومع تطور العصر قام بطاركة القسطنطينية مثل يوحنا الصوّام ونيكيفوروس وفوتيوس بإدخال بعض التعديل على قوانين القديس باسيليوس .
قد قام بهذا العمل أئمة الرهبان مثل القديس نيلس رئيس دير مريم العذراء في قبرص، والقديس ثيودورس رئيس دير الستوديون في القسطنطينية، والقديس اثناسيوس الآثوسي . حتى الأباطرة البيزنطيون أنفسهم تدخّلوا في أمر قوانين القديس باسيليوس، وأوصوا بالحفاظ عليها، وساهما في بعض التجديد فيه، وهكذا أصبحت قواني القديس باسيليوس أصلا لقوانين كثيرة حملت هذا الاسم نفسه[5] .
وهنا بعض آثار قوانين القديس باسيليوس الكبير( المختصرة) في المجامع المسكونية والمحلية:
مجمع المسكوني الأول:
– القانون الثالثكتب في تاريخ | لا تعليقات »
تشكّل التراث( الرومي ) الأرثوذكسي:
6 ديسمبر 2007
لأن الرب يسوع هو المؤسّس الحقيقي للكنيسة عبر بشارة رسله، فأصل التراث المسيحي الارثوذكسي هو شخص الرب يسوع بالذات والبشارة السارة التي بشّر بها الرسل أعضاء الكنائس الأولى فبنيوا عليها. اذ " تسلّموها ويقومون فيها وبها أيضا يخلصون”[1]. هذه البشارة الشفهية التي سمعتها الكنائس "في الايمان والمحبة التي في المسيح يسوع"[2] مع ما حملته من شركة مع الثالوث[3] ومن أسرار[4] ومن مواهب الهية[5]، تسلّمها الرسل من الرب يسوع[6] فسلّموها للإخوة الذين آمنوا[7]، وهؤلاء تسلّموها فعاشوها محافظين عليها بالروح القدس وسلّموها للذين بعدهم، وهكذا دون انقطاع من جيل الى جيل. لهذا السبب سمّاها الرسل التسليم أو التسليمات[8]، ومدحوا الكنائس لأنهم يحفظونها[9]، وأوصوهم أن يتمسّكوا بها[10]، وحتى “أن يتجنّبوا كلأ أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التسليم الذي تسلّمه منهم"[11].
على أساس هذه التسليمات ذاتها والتي دعاها الانجيلي لوقا "الأمور المتيقّنة عندنا كما سلّمها الينا الذين كانوا من البدء معاينين وخدّاماً للكلمة"[12]، كتبت أسفار العهد الجديد أيضا بالروح القدس مشكِّلة مع التسليمات الأولى تسليماً واحداً متكاملاً* غير منفصل يعاش ويسلَّم ويحافظ عليه، "كوديعة صالحة بالروح القدس الساكن فينا"[13] .
هذا التسليم الرسولي عاشه أعضاء الكنائس الرومية الأولى منذ الابتداء اذ كانوا "يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات"[14]، بالروح القدس الماكث معهم[15]، ولذلك صار التسليم الواحد الحي (الشفهي والمكتوب) المصدر الأساسي الوحيد للتراث المسيحي الارثوذكسي عبر كل العصور. أما التراث نفسه فما هو الا استمرار حي ومتجدِّد للتسليم الرسولي الذي لم يتغير بنعمة الله جوهرياً في شيء. لكنه يحمل في الوقت نفسه سمات العصور الغابرة والمناطق المتباعدة عبر وسائل التعبير البشرية المختلفة، ان كانت الشفهية والحياتية والليتورجية والتي لا تزال تعاش الى اليوم، وان كان ما يُقبَل من الكنيسة ويدخل في تراثها كالكتابات والصلوات والترانيم والايقونات والأبنية والأدوات الكنسية.
وبما أن هذا التراث قد عيش أوّلاً في اطار الأمبراطورية الرومانية ولقرون طويلة (حوالي خمسة عشر قرناً) فلا شك أن الرسل والآباء والشعراء والرسامين والفنانين القديسين قد استعملوا التعابير اللغوية والاصطلاحات الفلسفية والأصول الشعرية والموسيقية والتصويرية والفنية التي كانت شائعة في البيئة الرومية عبر تلك القرون. ولأن هؤلاء كانوا من جميع شعوب تلك البيئة فلقد استندوا في تعابيرهم بكل تأكيد على حضارات وثقافات شعوبهم لا اليونانية والرومية فحسب بل وعلى جميع الحضارات الأخرى ولا سيما الشرقية منها كالعبرانية والمصرية والآرامية الخ… من هنا يفهم أكثر التشديد على نعت هذا التراث برومي وليس باغريقي أو بيزنطي، اذ هو تراث مشترك لجميع الشعوب المسيحية التي كانت تسمّى رومية ( أو رومانية) حينها. وان كانت مساهمات البعض منها قد ازدادت، بينما خفّت مساهمات البعض الآخر، في أزمنة لاحقة، لأسباب تاريخية مختلفة.
من وجهة نظر كنسية، ما يهمّ أكثر في هذا التراث الذي تميّز بالعظمة والابداع، ليس روعة تعابيره البشرية فنياً أو فكرياً أو وجدانياً، بل ما تحمله هذه التعابير من روحانية وحياة الهية. لأن هذه الروحانية – التي تعكس حياة مؤلفي هذه التعابير الذين امتلأوا من روح الله – تساعد، من جهة، المؤمنين على التخشع والتوبة والثبات في الدعوة الالهية التي دعيوا اليها، وتؤكِّد، من جهة أخرى، أصالة هذا التراث الذي حافظ بأمانة واستقامة رأي وحياة على الوديعة الصالحة بمعونة الثالوث القدوس الحاضر في كنيسته الى الأبد.
[1] 1 كور 15: 1-3
[2] 2تيمو 13:1
[3] 1يو 3:1
[4] أنظر مثلاً مت 28: 19، 1 كور 12: 13، لو22: 19، 1كور 11: 24 -25، يو 20: 22-23 الخ…
[5] أنظر مثلاً 1كور 12: 4-31
[6] مر 16: 15-17، مت 28: 18-19، غل 1: 11-12 الخ…
[7] 1 كور 11: 23، 1كور 15: 3، 2تيمو 2: 2
[8] كلمة تسليم هي الترجمة الأدق لكلمة Paradosis اليونانية. تترجمها عادة النسخة البروتستانتية بكلمة تعليم، وتضع في الحاشية: أو "التقليد". وكذلك تفعل بالنسبة "لجمع" هذه الكلمة "تسليمات". أنظر مثلاً: 2تس 3: 6 و1كور 11: 2 الخ…
[9] 1 كور 11: 2
[10] 2 تس 2: 15
[11] 2 تس 3: 6
[12] لو 1: 1-2
* يقصد بالتكامل الاشارة من جهة الى أهمية دور التسليم المكتوب في حفظ نقاء وعدم تغير البشارة الأولى، ومن جهة أخرى الى أهمية التسليم الشفهي في استمرارية حياة الكنيسة الالهية بالاضافة الى دوره الذي لا غنى عنه في التفسير المستقيم الرأي للتسليم المكتوب.
[13] 2 تيمو 1: 14
[14] أع 2: 42
[15] يو 14: 16-17