تقاسيم على صلاة القدّيس إفرام
“أيّها الربّ وسيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال. وأنعم عليّ، أنا عبدك الخاطئ، بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة. نعم، يا ملكي وإلهي، هبني أن أعرف ذنوبي وعيوبي وألاّ أدين إخوتي، فإنّك مبارك إلى الأبد، آمين” (صلاة القدّيس إفرام السريانيّ ).
هذه الصلاة، التي نتلوها في خِدم الصوم الكبير جملةً، هي صلاة الصوم بامتياز. وقد تركها لنا القدّيس إفرام السريانيّ ذخيرة لقلوبنا، لنستقبح الرذيلة دائمًا، ونحبّ الفضيلة التي هي هدف انتسابنا إلى جسد المسيح.
تبدأ الصلاة بالتوجّه إلى الربّ “سيّد حياتي”. وهذا يعني أنّ العلاقة بالله لا يحكمها أن أعرف ما يرضيه فقط، بل أن يسود ما يرضيه حياتي كلّها. فالربّ سيّد حياتي بهذا المعنى الذي يجعله، عندي، الآمر الناهي في كلّ شيء. ثمّ يعدّد القدّيس إفرام أربع رذائل: “روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال”. وهذا التعداد لا يجوز اعتباره تعدادًا عشوائيًّا. فواضعها يتكلّم من خبرة. ويختار الرذائل التي يعرف أنّ قبولها، أو إحداها، يعطّل عضويّتنا في جسد المسيح. إنّها الرذائل التي يثيرها “روح” الشرّ الذي يكره الكنيسة والاندماج فيها. وهذا يثبته أنّه يطلب إلى الله، قبل أن يوردها، أن يعتقه منها. واللفظة “أعتقني” تعني حرّرني. إنّه يرى الرذائل شرًّا يكبّل الإنسان، ويرميه خارج الحياة الكنسيّة. وما من أحد يقدر على أن يحرّرنا من هذا الأسر المريع سوى الربّ الذي هو الحرّ، أي ابن بيت الله على نحو كلّيّ وثابت.
أوّل هذه الرذائل “البطالة”. واللفظة لا تعني ألاّ تكون لي مهنة في الأرض أرتزق منها، بل أن أبتعد عن حياة كنيستي، أن أرى المؤمنين، ولا يحرّكني أن أكون منهم. وهذا شائع في زماننا، وفي غير زمن. فالقدّيس إفرام لا يخترع رذيلة لا يرى إلحاحها وتحكّمها في بعضٍ. يتكلّم على الموجود، ليعرف المؤمنون مقتضى الالتزام الحقيقيّ. فنحن لا نقدر على أن نضع كنيستنا على هامش حياتنا. إنّنا، بذلك، نعطّل مواهبنا التي نلناها في معموديّتنا لخيرنا وخير الجماعة كلّها. وهذا هو معنى البطالـة الكامـل. ثمّ يضيـف “والفضـول”. واللــفظـة، التـي تعني ظاهريًّا ما نقوله في لغتنا العامّيّة “الحشريّة”، يرينا قبولها أنّنا على حقّ في بطالتنا وفي كلّ شيء. يرينا أنّ ما من أمر، في الجماعة، يدفعنا إلى أن نغيّر رأينا الخاطئ. أي هي، باختصار، أن نرمي أنفسنا، بإرادتنا، في يأس مُهلك. وهذه الرذيلة يتبعها “حبّ الرئاسة”. فالرئاسة، التي هي خدمة في كنيسةٍ إلهُها خادم، لا يلمع حبّها في سوى عينَيْ البطّال واليائس الذي هواه أن يغطّي نقائصه القاتلة بمحاولة إخضاع الآخرين له. وهذا يجب أن ينتبه له الذين يؤمنون، في الكنيسة، بالربّ سيّد حياتهم. فقاعدة كلّ التزام صحيح أن نعرف أنّ ثمّة فرقًا شاسعًا بين من تختاره الكنيسة رئيسًا فيها، وبين من يحبّ أن تختاره. من يحبّ الرئاسة، لا يؤمن بالله، بل بنفسه. وآخر رذائل هذا التعداد “الكلام البطّال”. وهذه تعني أنّني، إن كنت لا أنفع بشيء، لا أقدر على أن أتكلّم بالحقّ المنقذ. لا أحبّ أن أسمعه، ولا أن أشهد له. أرمي نفسي في التفه، وأردّد التفه الذي هو جحيم البعيدين.
دواء هذه الرذائل جملةً ما يذكره القدّيس إفرام من فضائل. فالفضيلة هي أن تستقبح الشرّ باختيارك العمل بما هو ضدّه. وهكذا تداوي البطالة بالعفّة، والفضول باتّضاع الفكر، وحبّ الرئاسة بالصبر، والكلام البطّال بالمحبّة. ويجب أن نلاحظ أنّ واضع هذه الصلاة يبدأ قائمة فضائله بلفظة “روح”، وتعني الروح القدس محيي الفضيلة في قلوب محبّيها.
أوّل عبارات هذا المقطع قولُ القدّيس: “أنعِم عليّ أنا عبدك الخاطئ”. وفعل “أنعم” يدلّنا على أنّ الجهاد المسيحيّ، الذي هدفه اقتناء الفضيلة، مرتكزه معونة الله المُنعم. فالله هو الذي يُنعم عليّ لا بأن أختار فضيلته فحسب، بل بأن يساعدني على تحقيقها أيضًا. والله، الذي يُعين الجميع، لا يعي معونته سوى الذين يرون أنفسهم عبيدًا خاطئين، أي قومًا لا يعنيهم سوى أن يمجّدوا الله الذي يقفون أمامه.
هذه العبارة الأولى تسمح لقائلها بأن يطلب روح العفّة. وهذه، التي لا ينحصر معناها بالانضباط الجنسيّ، هدفها أن ننخرط في الكنيسة على أساس أنّ كلّ مـن فيـها قـد قُبـِلَ قبـولاً طيّـبًا. روح العـفّة يشفينا من البطالة التي تجعلنا نميّز بين الناس. إنّه يعطينـا ألاّ نـأتي من ذوقنا الخاصّ، بل من تلك القناعة المُرضية التي نختبرها بالنعمة التي تبني جسد المسيح. ثمّ يقول “واتّضاع الفكر”، وهي الفضيلـة الغالية على قلـب كلّ مـن أدرك أنّ الله قادر على كلّ شيء. فما يحمينا من اليأس ومن تمييزنا بين الناس، هو أن نعتقد بقدرة الله، ونسلّم أنفسنا وأعضاء جماعتنا له تسليمًا كلّيًّا. ففي الجماعة من هم ضعفاء يحتاجون إلى معونة. ونحن إنّما شأننا أن نؤمن بأنّ الله، الذي قَبِلَنا فيما نحن لا شيء، قادر على أن يعين الضعيف ومن يراوح مكانه. وبعد هاتين، يطلب الصبر. والصبر، الذي لا يمكن أن نثمر من دونه، هو الفضيلة التي تعلّمنا ألاّ ندين إنسانًا على زلّة مقدّرة أو ثابتة. ويختم فضائله بالمحبّة التي لا تمنعنا من أن نتكلّم على أحد بالسوء فحسب، بل تجعلنا، كما الربّ الذي نتوجّه إليه في الصلاة، أبناء البيت على نحو حقيقيّ.
ثمّ يُنهي صلاته بقوله: “نعم، يا مَلكي وإلهي، هبني أن أعرف ذنوبي وعيوبي وألاّ أدين إخوتي، فإنّك مبارك إلى الأبد”. وهذا، الذي يبدو تكرارًا لبعض ما قاله، يريد به التأكيد أنّ شأن المؤمن أن يعرف ذنوبه ويمتنع عن إدانة من يحيا معهم، ليقدر على أن يبارك الله في فمه وقلبه وحياته كلّها. فبغير هذين الأمرين المتلازمين اللذين هما قاعدة كلّ صلاة وثمرة كلّ صلاة، لا أحد يمكنه أن يبارك الله تبريكًا حقيقيًّا
هذه الصلاة قانون حياة يحضّنا القدّيس إفرام على أن نلتزم معانيه في هذا الصوم المقدّس، لنبقى عليه دائمًا بالتزامنا حياة كنيسة أُرسلت في العالم، ليتبارك الله في من يسودهم حبُّهُ