الصوم الأربعيني ومواجهة النفس
قدموا صوماً نادوا بإعتكاف
كثيرون من الناس يقولون لماذا نصوم؟ وقبل ان نجيب على هذا السؤال ، نذهب الى الطبيعة ، ونرى ماذا يخبرنا القديس يوحنا السينائي : ان الأمثلة المستوحاة من الطبيعة تساعدنا على توضيح الأمور الروحية . فعندما نذهب الى الحقل ، ونجد انه يتم تقليم الأشجار في هذا الموسم ، وذلك حتى يتم التخلص من الأغصان غير الجيدة ، وحيئذ تنمو البراعم بشكل جيد لتستعد لفترة الإثمار . وهكذا نحن بحاجة إلى تقليم ، ولكن من نوع آخر وهو الصيام إذ اننا بالصيام نتوقف فقط عن تناول بعض المأكولات ، ولكن ننزع ونميت كل قول أو فعل أو فكر يبعدنا عن الرب يسوع المسيح ، وبعدها نتقوى مستعينين بالصلاة ، وكلاهما يساعدان على نمو براعم الإيمان ، لذا يقول القديس باسيليوس: ” ان الصوم الحقيقي هو سجن الرذائل ، اعني ضبط اللسان ، وإمساك الغضب وقهر الشهوات الدنسة” .
هذا هو الصيام ليس فقط حرمان المعدة من الطعام والشراب ، وإنما هو وسيلة تشدد عزمنا على السير في طريق الصليب مع الحبيب متحملين الجوع والعطش لنذق مرارة الألام التي تجرعها الحبيب من أجلنا ، هذه المرارة التي تنقلنا رويداً رويداً إلى الفرح الحقيقي ، فرح قيامة الرب يسوع في قلب كل منا .
الصوم بمفهومه الخاص، هو الامتناع عن الطعام فترة معينة، يتناول الصائم بعدها أطعمة خالية من الدسم الحيواني.
لكن للصوم مفهوماً عاماً عند الآباء القديسيـن. فهو في رأيهم يشتمل على كل صنوف التقشف والنسك وقمع الأهواء والشهـوات الجسديـة. قال القديس يوحنا ” صوم الجسد هو الجوع من الغذاء البعد عن المأكولات، النسك من الدسم، وصوم النفس هو أيجوع الإنسان ويعطش للبر، ويصوم عن التدابير الرديئة وعن الاهتمام يها وعن ذكر الرذائل”. وقال بولس الرسول ” وكل من يجاهد يضبط نفسه عن كل شيء… أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً (1كو 25:9 ).
إن الصوم موسم إعتكاف وإلتقاء مع اللـه، رسمته الكنيسة تشبهاً بالرب يسوع عندما رجع من الأردن بعد العماد ودخل البـرية وحده في عزلة كاملة عن العالم أربعين يوماً يصلي مجاهداً ضد الشيطان، وفي أثناء هذه المدة لم يأكل شيئاً.
أيـها الأخوة الأحباء بالمسيح _ إن سليمان الحكيم قال: ” باطلة هي الأباطيل كل شيء باطـل ” (جامعة 2:1)، والملك داود رنم: ” إنما يسلك الإنسان في الظل باطلاً يعجون ” (مز 7:38) حقاً إن الذين يحبون الأشياءٍ الباطلة يعجون والذين يحرصون على المال وغيره سرعان ما يزولون ولا يقدرون أن يأخذوا معهم شيئاً من حطام الدنيا، ولذلك لا يرتاحون. سنترك كل شيء هنا ونذهب عراة كما خلقنا، سنذهب إلى الأبديه، إلى أمام الديان الرهيب، سننتقل إلى الحياة الآتيه، عراة بكآبة قلب، وبإنسحاق النفس، ويرعدة وخوف، وبالتنهدات العميقة، نقف أمام المحكمة المخيفة حيث لا محاباة، ولا إسترام ولا شفاعة ولا دفاع، حيث يتحتم على كل منا أن يؤدي الحساب عن أعماله وأقواله وأفكاره.
حقاً ! أيها الأخوة سيكون خوف ورهبة لم يسبق مثيلهما منذ بدء العالم، كل ما في السموات وما تحتها يظهر. وكل من على الأرض ومن فيهاٍ يهتز ويرتجف. القبور تفتح والأموات تنهض، والأحياء تنتصب. وإذا كان نبي اللـه دانيال قد إرتعد خوفاً لما رأى الدينونة الآتية فماذا يحدث لنا نحنٍ، عندما نقف جميعاً للدينونة الرهيبة من شروق الشمس إلى غروبها مثقلين بخطايـانا ؟ أيـن ٍالأصدقـاء والأقرباء حينئذ ؟ أيـن الذخائر الغالية الثمن ؟ أين أولئك الذين ازدروا الفقراءٍ وطردوا الأيتام والبؤساء ونسبوا كل حسنة لنفوسهم مدعين أنهم المتقون المفضلون ؟أين أولئك الذين لم يكن خوف اللـه في قلوبهم ولم يؤمنوا بالعذاب الآتي ووعدوا أنفسهم بالخلود على الأرض ؟ أين أولئك القائلون: ” لنـأكل ونشـرب غـداً نمـوت ” (أشعيا 13:22)
في الواقع أن الكنيسة تقدم لنا في هذا الموسم المقدَّس الجو الروحي اللازم والمناسب جداً بالقراءات والألحان والعظات للدخول في مثل هذا الإعتكاف الداخلي والإعتزال القلبي عن العالم لنلتقي أولاً مع أنفسنا ثم مع اللـه.
كيف نلتقي مع أنفسنا:
من العسير جداً على أي إنسان أن يلتقي مع نفسه في مواجهة داخلية كاشفة طالما هو يمارس حياته اليومية الروتينية من أكل حتى الإمتلاء وحديث لا يهدأ وإنشغالات جانبية تافهة وتسليات وتلفزيون وأفلام وفُسح ونوم وزيارات. لذلك أصبح إختزال كل ما هو غير هام أمراً ضرورياً في الصوم المقدس حتى تتهيأ لنا الفرصة للإعتكاف الداخلي.
ستواجهنا صعوبة حتمية عند البدء في تقليل الأكل أو تقليل الكلام، أو تقليل الخروج من البيت أو تقليل ساعات النوم. ولكن يلزمنا جداً أن ندرك من البدء أن هذه الصعوبة مرجعها إلى إن رغبة النفس الشديدة في الهروب من الإعتكاف خوفاً من مواجهة حقيقتها الخاطئة، ورغبة منها في الإستمرار في إنحلالها وتلذذها بالخطايا. وهذا أمر يحتاج إلى صرامة وحزم شديد وإنتباه للأعذار الواهية والكاذبة التي ستخلقها بإستمرار للهروب من الإعتكاف والصوم.
فإذا نجح الإنسان في التغلب على عاداته ثم نجح في السلوك بصرامة وحزم وإنتباه تجاه أعذار النفس ومرواغتها وإستطاع أن يوفر لنفسه فرصاً للهدوء والإعتكاف والصلاة يكون قد نجح فعلاً في الدخول في بركات الأربعيني المقدسة وتهيأ لكي يجني ثمارها. وثمار الإعتكاف ومواجهة النفس كثيرة، وأهمها إثنتان :
1. الثمرة الأولى :
إكتشاف مـدى الخسارة التي أصابتنا بسبب التواني والإهمال والكسل في الحياة الروحية الناتج من عدم جدة نظرتنـا للحياة، والناتج أيضاً مـن الهروب من فـرص الإعتكاف والصلاة. وسوف نتحقق بأنفسنا ـ وبدون واعـظ ـ كيف أن التواني والكسل والإهمال وهروب النفس من الإعتكاف أفسدت حياتنا وضيَّعت علينا فرصاً كثيرة للنمو الروحي بل وأوقعتنا في إنحلال وخطية، وجعلت حياتنا في فتور.
ولكن أخطر ما ينتج عن التواني والإهمال في الصلاة والكسل الروحي الذي يصيب القلب ويبلّد الذهن هو التوهم الخاطئ الذي يصيب فكر الإنسان وإرادته فيعتقد أنه غير قادر على تغيير نفسه وأن لا فائدة من محاولاته. لأن الإهمال والكسل يتسّرب إلى كل محاولة للتغيير والتجديد فيبطلها.
لذلك، فإن إكتشاف حالة التواني والإهمال والكسل عند بدء الإعتكاف ومواجهة النفس وتفتيشها يعتبر من أعظم أعمال الإعتكاف ومن أشهى ثمرات الصوم المقدس، وهو بمثابة قلع الجذر المسموم الذي يغذّي الحياة الروحية بالإستهتار أولاً بأول ويمدها بفقدان الثقة بالنفس وباللـه، والذي يوقف جهاد الإنسان شيئاً فشيئاً كلما تقدمت به الأيام حتى يوصله إلى اليأس أما اليأس الذي ينتهي إليه التواني والإهمال والكسل فهو مجال الشيطان الذي يعبث فيه ويصول ويجول ليبدد كل رجاء الإنسان وخلاصه.
2. الثمرة الثانية:
إكتشاف مدى الخطأ والإنحراف الذي أصاب الهدف الروحي الذي نعيش له. لأن أي إنحراف في الهدف الذي نسير نحوه من شأنه أن يعرقل مسيرتنا ويلقينا في مشاكل وإرتباكات وأوهام كفيلة أن تجعل طريقنا في النهاية مسدوداً بالرغم من مظاهر النجاحات التي نظهر بها أمام الناس. لأن بقدر وضوح الهدف تكون بالتالي سهولة المسير نحوه ! وبقدر الأمانة والإخلاص لهدفنا تكون ثقتنا ويكون رجاؤنا وتكون شجاعتنا وتكون قوّتنا!
ونحن لا نملك ويستحيل أن نملك هدفاً صحيحاً سوى المسيح نفسه، المسيح هو هدفنا الذي نعيش له ونموت له، كما يقول أشعيا النبي (9:26) ” إلى إسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي أشتهيك في الليل، وبروحي في داخلي إليك أبكّر ” فإذا لم يكن المسيح نفسه هو هدف حياتنا بكل وضوح وأمانة وإخلاص القلب والنية، فإن العالم سيكون هدفنا، وستكون الذات وعظمتها وكبرياؤها هي هدفنا، وستكون الأرصدة المالية هدفنا، وسيكون مديح الناس هدفنا، وحينئذ ستكون المسيرة مفضوحة والطريق معوّجة، وسوف أكتشف أن إرادتي أصبحت أهم عندي من إراداة اللـه ومشيئتي قبل مشيئة اللـه، وحيث لا يعود اللـه هو شهوتي بل شهوتي تكون في كرامتي وقوتي ومالي! ولا تعود نفسي تستسيغ أن تخضع لعبيد اللـه أو أن أستعبد ذاتي لخلاص الآخرين، بل على النقيض أستعبد كل شيء لذاتي.. لأن المسيح كهدف لم يعد موجوداً بل نفسي !
فإذا إكتشفنا مدى الإنحراف والخطأ الذي أصاب هدف حياتنا، نكون قد حصدنا الثمرة الثانية للإعتكاف وهي ثمرة عزيزة جداً لا تقدر بثمن لأنها ستقنعنا بتغيير الحياة مهما كلفنا الأمر، بل وإذا لزم الأمر نرفضها وننبذها غير آسفين على نجاحها الظاهري الكاذب كما نبذ القديس اسحق أسقفية نينوى العظمى وغيره من الآباء القديسين الأطهار الذين فضلّوا كهوف الأرض على قصور الملوك عند لحظة إكتشاف ضياع الهدف وإنطرحوا في عمق البراري معتكفين متوحدين فصاروا خلاصاً لأنفسهم ولمئات الآلاف على مدى الأجيال.
فدونكم جهاد الصيام المقدس أيها المؤمنون، هذه الفرصة المواتية للتسابق في ميدان الفضيلة والحياة الظليلة، والتنافس في مضمار المثل العليا والقيم الخلقية الرفيعة بإتضاع.
بارك اللـه لكم في أصوامكم وصلواتكم وتعبداتكم وصدقاتكم وأعانكم على مقارعة الأهواء النفسية والجسدية، وبلغكّم بالسلامة إلى ميناء الفصح المقدس والعشاء السريّ. ووفقكم للحظوة بمجده السرمدي، في السماء، مع التوابين الصائمين بنعمته تعالى