الأعياد السيدية (مواعظ ومقالات) الفصل الثامن: ذبيحة الصليب الشماس اسبيرو جبور
ذبيحة الصليب
ذُبِحَ فِصحُنا المسيح. المسيح هو خروفُنا الفصحي المذبوح على الصليب لأجل خطايا العالم ليغسلَ بدمه الكريم خطايا العالم ويُطهِّرَنا من كلِّ إثمٍ ويُجدِّدَ طبيعتَنا المصابة بالتَلَف والهلاك والفساد والتعفُّن. كنا مرفوضين من الله أمّا الآن فصرنا مقبولين. بدم المسيح تجدَّد كلُّ شيءٍ. ذبيحةُ الصليب خالدةٌ في تاريخ المسيحية منذ العنصرة والى أبد الآبدين. منذ بداية المسيحية كان المسيحيون يجتمعون ويُقيمون خدمة القداس تنفيذاً لوصية الرب يسوع الذي قال لهم “إصنعوا هذا لذكري” ففي يوم الخميس العظيم صَنَعَ الفصحَ المسيحي، فقال لتلاميذه “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُكسَرُ من أجلكم لمغفرة الخطايا وهذا هو دمي الذي يُهراق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا، إصنعوا هذا لذكري”. فإذن الوصية واضحة، نصنع عشاءً، نكسر الخبز، نبارك الكأس ونتناول جسد الرب ودمه. بولس الرسول في الفصل 11 من رسالته الأولى الى أهل كورنثوس صريحٌ جداً، سلَّمَنا ما تسلَّمَه من الرب وهو أن نكسر الخبز وأن نبارك الكأس ونتناول وزادَ على ذلك، كلّما أكلنا من هذا الخبز وشربنا من هذه الكأس نتذكَّر موتَه حتى يجيء. باسيليوس في قداسه قال” كلّما أكلنا من هذا الخبز وشربنا من هذه الكأس نتذكَّر موتَه ونعترف بقيامتِه”. في يوم الجمعة العظيم ذُبِح المسيح، خروفُنا الفصحي على الصليب ولكن لم يكن يوم الجمعة هو يومُ فصحِنا. فخروفُنا الفصحي حيٌّ لا ميتٌ، لذلك الأحد هو الفصح المسيحي لأن المسيح قام من القبر ومناولتنا الفصحية تكون في ذلك اليوم. لا يُقام قداسٌ في الكنيسة الأرثوذكسية يوم الجمعة العظيم. ذبيحة الصليب خالدة في تاريخ الكنيسة ورأينا بولس الرسول يُعلِّمنا أننا كلّما أكلنا من هذا الخبز وشربنا من هذه الكأس نتذكَّر موتَ الرب الى أن يجيء. فإذن، كلما أقَمنا خدمة القداس نتذكر موت الرب ومع باسيليوس الكبير نتذكر قيامتَه أيضاً ونعترف بها. في كتاب أعمال الرسل نرى أن الرسل كانوا مواظبين على خدمة القداس وفي تعليم آباء الكنيسة نصائح للمواظبة على خدمة القداس يومياً والتناول باستمرار. كان أهم عمَل يجري في تاريخ الكنيسة هو اجتماع المؤمنين لحضور القداس الالهي والتناول، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن يُقام القداس يومياً في العالم المسيحي. كلما أُقيم هذا القداس، إحتفلنا بيوم الجمعة العظيم كما يقول الذهبي الفم ” الخبز والخمر الماثلَين على المائدة هما ذبيحة الصليب بعينها ” ويقول كذلك في أفشين المطالبسي ” اؤمن وأعترف بأن هذا الخبز هو جسدكَ الكريم نفسه وهذا الخمر هو دمكَ الكريم بعينه”.
في يوم الأحد على الأخص يتهافت المؤمنون على الكنائس لحضور القداس الاهي والتناول، ولذلك فأهم عمل يقوم به المسيحيون يومياً وأسبوعياً هو خدمة القداس والأمر متداولٌ منذ عهد الرسل حتى أيامِنا هذه والى أبد الآبدين. فعبثاً يُنكِر البعض أهمية هذه الإحتفالات، هي إحتفالاتٌ يومية في كل العالم، واذا كان هنالك تقصير في بعض المناطق فمجموع العالم المسيحي مواظب على ذلك يومياً واسبوعياً. متى يجتمع المسيحيون ويلتقون؟ حين إقامة القداس الالهي. ما يجمعُهم؟ الكنائس. ماذا يجري في الكنائس؟ إقامة القداس الالهي. فاذن، هناك حقيقةٌ خالدةٌ منذ بداية المسيحية حتى اليوم والى الأبد الا وهي إقامة القداس الالهي والايمان بأن الخبز يتحوَّل الى جسد الرب والخمر تتحوَّل الى دم الرب. لا يُنِكر اليهود صلب المسيح إنما يُنكرون قيامتِه ويتبرأون من صلبِه ليتّهموا الرومان ولكن كل شيء في الكنيسة يُثبت أن اليهود هم المسؤولون عن ذلك وإنجيل يوحنا يلومهم على ذلك أكثر مما يلوم بيلاطس، فخطيئتُهم أشنع من خطيئة بيلاطس. يُنكرون القيامة لأن القيامة تهدم كلَّ مزاعمهم الدينية الفاسدة ولكن عبثاً نكروا القيامة فبولس في الفصل 15 من رسالته الى كورنثوس يقول أن أكثر من 500 شخص شاهدوا المسيح قائماً من بين الأموات وأكثرُهم لا يزالُ حيّاً. تاريخياً، الصلب ثابت والقيامة ثابتة أيضاً ولا مجال لنكران ذلك فليس من دليلٍ على خِلاف ذلك. بِدعة الظاهريين قالت إن يسوع صلبَ سمعان القيريني، طبعاً هذا زعمٌ باطل ويسوع له المجد لم يتخلص من الصلب ليصلب سمعان القيريني فيُصبح مجرماً، المسيح لا يرتكب الإجرام أبداً. المسيح صُلِب حقيقيةً، شاهده الناس بكميات كبيرة ولوقا الإنجيلي قال أن الناس إحتشدوا في الجلجلة على مرأى المسيح مصلوباً وكان المارَّة يهزأون وأعضاء المجلس اليهودي الأعلى يهزأون. الحدثَ تاريخيٌ ثابت والرسل حجّوا اليهود واتهموهم بذلك واتهموا المجلس الأعلى اليهودي بجريمة قتل المسيح. نادى التلاميذ بالصلب وبالقيامة وبولس الرسول قال” حاشا لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلبَ العالم لي وانا صُلِبتُ للعالم” .
لا يُريد أن يعرف بولس الا يسوع المصلوب فيسوع غيرُ مصلوبٍ لا يخلِّصني من خطاياي. قال الملاك ليوسف أنه سيُسمّي مولود العذراء يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. ويسوع هو المخلص من الخطايا وهو الذي يغفر الخطايا فلذلك المسيحي موضوع أمام الصليب في كل يومٍ. ماذا يُريد المسيحي من ذبيحة الصليب؟ يريد أن يتناول جسد الرب ودمَه. لماذا؟ لينالَ مغفرة الخطايا والحياة الأبدية كما قال يسوع. جسدُه مأكلٌ حقاً ودمُه مشربٌ حقاً كما قال في الفصل السادس من يوحنا الإنجيلي. نحن أمام مائدة حقيقية ولكنها مائدة سماوية. هل نتقدَّم الى هذه المائدة بضمائر نجِسة؟ لا. هذه خطأٌ كبير. بولس الرسول في كورنثس الأولى الفصل 11 حذَّرَنا من هذا الخطر لأن مَن يتناول جسد الرب ويشرب دمَه من دون إستحقاق ينال دينونة ويُعتبر مجرماً في جسد الرب ودمِه أي أنه يقتل يسوع المسيح. ومَن يتجاسر على قتل يسوع بدون أن يكون قد إنخرط في زمرة المجلس اليهودي الأعلى الذي قتل يسوع المسيح؟ لذلك لا يجوز أن يتقدّمَ المرءُ الى المائدة المقدَّسة إلا بضميرٍ متطهِّر. المطلوب مني أن أتناول يومياً إن كان ذلك ممكناً ولكي أتقدَّم، يجب عليَّ أن أفحص ضميري فحصاً دقيقاً. ولذلك، فحياة المسيحي الحقيقية هي التطهُّر المتواصل بضميرٍ طاهرٍ نقيٍّ ليتناول المرء بخشوعٍ وتقوى وعبادة وسجود. ما هي حياة المسيحي إذن؟ حياة المسيحي توبةٌ وتناولٌ.
كم مرة يتوب المرء في حياته؟ حياة المسيحي برُمَّتها توبةٌ. في الليل والنهار هو التائب الدائم. كان إكليل الشوك على رأس المسيح أما الآن فانتقل إكليل الشوك الى قلب كل مسيحيٍّ. كيف صار قلب المسيحي مكللاً بالأشواك الروحية التي تنخزُ ضميره ليلاً ونهاراً ليتوبَ عن آثامه، عن هفواته، عن أخطائه، عن ما يرتكبه خلال ليله ونهارِه؟ نحن مجبولون بالإثم ولذلك حياة الإنسان المسيحي هي التطهُّر الدائم بالتوبة والمناولة . كاسيانوس قال” لا تقل لي إني أتطهَّر أولاً لأتناول، أنت تتناول لتتطهَّر” ولكن العمليتان مترافقتان. لا أستطيع أن أتطهَّر بقدرتي الذاتية بدون المناولة ولكن الواجب الديني يفرض علي باستمرار أن يكون قلبي منسحقاً متذللاً متخشِّعاً مطحوناً بالطحن الدقيق بالفحص الدقيق والندامة المتواصلة. التوبة هي حياة المسيحي. ما مهنة المسيحي؟ مهنة المسيحي روحياً هي حقيقيةً التوبة المتواترة المتواصلة . متى يتوب؟ ما من وقتٍ للتوبة، كل الوقت هو وقت توبة، هو وقت فحص ضمير دقيق جداً. ضمير الإنسان المسيحي موس حادة جداً تجرحه دائماً، تعِظُه لكي يبتعد عن كل شبه شر. بولس الرسول ما اكتفى ان حذَّرَنا من الشر بل من كل شِبهِ شر. كل الأشياء الملتبَسة الغير الواضحة تتطلَّب منا الإمتناع، هذا يعني أن الإنسان المسيحي مُطالَب أن يكون يقِظاً في الليل والنهار، مراقِباً لنفسه وساهراً على نفسه في الليل والنهار وأن يكون في كل لحظة متأهباً ليفحصَ ذاتَه. الأمر يتطلَّب اذن يقظةً دائمة وسهَراً متواصلاً وحذَراً مستمراً ونباهةً لا تغفَل ابداً وتنبهاً مستيقظاً. قال القديس بيساريون “يجب أن نكون مثل الشيروبيم والشيروبيم عندهم أعين ونحن يجب أن نكون برمَّتنا عيوناً “. جسدي ذو عينين، أما روحي فيجب أن تكون برمَّتها عيوناً مثل الشيروبيم لترى نفسَها باستمرار وتراقب نفسَها باستمرار ولتراقب حركات الأهواء والشهوات والغرائز والميول والرغبات باستمرار. اذن، الإنسان أتونُ نارٍ حادة من اليقظة والنباهة والتنبّه والحذَر ليلتقط أبسط الهفوات ويُحرقها. هذه هي التوبة. التوبة هي مهنة إنسان كلُّه عيونٌ يقظة ساهرة لا تنام، تراقبه برمَّته ليمتنع عن كل شِبه شرٍّ وليعمل كلُّ ما هو صالح، ليضبط نفسه ضبطاً كاملاً ويتقدم الى المائدة المقدسة منسحقاً خاشعاً تائباً باكياً متنهداً صارخاً من كل العمق “أيها الرب الاله إرحمني انا عبدك الخاطىء”. بقدر ما يتذلل أمام الله بالقدر نفسه يرتفع الى الله.
فإذن المسيحي مرتبط بقضيّتيَن هامتَين: التوبة والمناولة. حياتُه برمَّتها تدور حول هذا المحوَر. لا يمكن أن نفصُل المناولة عن التوبة والتوبة عن المناولة. يوحنا فم الذهب كتبَ في شرح إنجيل متى ينصح الكهنة بأن يمتنعوا عن مناولة أيَّ إنسان يعرفون أنه مرتكب ولو كان ملكاً واميراً. فإذن، المناولة تحتاج الى استعداد والاستعداد يكون بالتوبة. التوبة والمناولة قضيةٌ واحدة لا يُمكن الفصل بينهما. مَن يذهب الى المائدة المقدسة فعليه أن يستعد بالتوبة. لا تقتصر التوبة على لحظات قبل المناولة. التوبة هي الحياة برمَّتها، كلُّ حياتِنا توبة، كلُّ وجودِنا توبة، كلُّ آمالنا توبة، كلُّ حركاتِنا توبة. التوبة في عيوننا، في آذاننا، في لساننا في أصابعنا في أرجلنا في حركات جسمنا.كلُّ شيءٍ خاضع للتوبة. هناك حركاتٌ في الجسم طاهرة وحركاتٌ غير طاهرة، هناك عيونٌ طاهرة وعيونٌ نجسة، هناك آذانٌ طاهرة وآذانٌ نجسة، هناك لسانٌ طاهر ولسانٌ نجس. مَن يُنجِّس لساني وعينَي وآذاني وروحي البعيدة الشاردة عن الله؟ روحي الخائنة مع الله هي التي تُدنس جسدي. عليَّ أن أُطهِّر روحي، فكري، هواجسي، عواطفي، ميولي، رغباتي، شهواتي، مطامعي. كلُّ شيءٍ فيَّ يجب أن يتطهَّر بالتوبة والمناولة، ودمُ المسيح هو الذي يطهِّرنا من كل خطيئة كما قال يوحنا في رسالته. هل أستطيع أن أتطهَّر بدون دم يسوع؟ لا. وهل يُطهِّرني دم يسوع بدون توبة؟ لا. في المطالبسي نقول “إرهب ايها الإنسان عند نظرِكَ الى الدم الالهي لأنه نارٌ تُحرق غير المستحقين”. المناولة تحرق الغير المستحقين، تحرق الخطايا وتنير المتناولين باستحقاق. هي نارٌ ونور للمستحقين، تُحرق خطاياهم وتُنير نفوسَهم.
لذلك الإنسان المسيحي هو امام واقع كبير. فذبيحة الصليب ماثلة أمام أنظارِنا كلَّ حين. كلُّ يومٍ نقف امام صليب المسيح نلتمس الصفحَ والغفران. إن كنتُ مستقيماً، نارٌ لاهبة تكشف عيوبي وتُحرقها. لا يستطيع المؤمن ان يقف امام ذبيحة الصليب بدون ان ترتعد فرائصُه رهبةً وخوفاً . لا يجوز ان ندخل الكنائس مستهترين. الدخول الى الكنيسة يكون بالسجود والعبادة والركوع والخشوع والتقوى والإنسحاق والتذلل والتواضع امام الله. قال يوئيل النبي ” مزِّقوا قلوبَكم ولا تمزِّقوا ثيابَكم” تمزيق القلب هو التوبة الحقيقية. قد ينخدع البعض شيطانياً، سيتوهّمون انهم بلا خطايا ويقول كثيرون ” لا نعمل شراً ” الذين يقولون هذا، يجهلون أن الشيطان يموِّه عليهم كلَّ شيء ويخدعهم. الشيطان هو الذي ينطُق، الشيطان هو الذي يُقَسّي قلوبنا لأن لا نشعر بالتوبة والندامة. قساة القلوب، هم قساة القلوب لأن الشيطان يُداعبهم، امّا المؤمن الحقيقي فهو لهيبُ نارٍ من مشاعر التوبة والندامة والخشوع ويذرف الدموع إن أعطاه الله دموعَ توبةٍ. القديسون جميعاً كانوا تائبين. القديس أفرام نموذج كبير للتوبة:كتاباتُه إعترافاتٌ متواصلة بخطاياه، يشتم نفسه باستمرار مع أنه عملاقٌ من عمالقة تاريخ الكنيسة وأكبر نموذج في الكنيسة مع اندراوس الدمشقي اسقف كريت في باب التوبة والندامة وتوبيخ الذات وتقريع الذات باستمرار. بدون تقريع الذات باستمرار، الكبرياء تنقرنا.
كبرياؤنا يحتاج دائماً الى التقريع. لماذا صُلب المسيح لكي يُطهرني انا النجس؟ لولا نجاستي لما مات المسيح على الصليب. فطالما انا نجسٌ فانا بحاجةٍ الى التوبة. مات المسيح لأني مجرمٌ وخاطىءٌ. فاذن، لا يحق لأي إنسانٍ كان في العالم ان يفتخر لا ببره، لا بقداسته، لا بجاههن لا بمنصبه، لا بمقتنياته، ولا بأي شيء. قال أشعياء وبولس ” مَن افتخر ليفتخر بالرب” . الإفتخار بالرب وحدَه جائز. انا مجبولٌ بالآثام، انا برمَّتي أثيمٌ، في كل خلايا نفسي وجسدي انا أثيمٌ ملوَّثٌ ولا قوةً في الكون تُطهِّرني الا دم المسيح وبما أن دم المسيح وحدُه يطهِّرني من كل خطيئة، فانا إنسانٌ نجسُ الشفتَين كما قال أشعياء النبي. إبراهيم انسحق، أشعياء انسحق وأيوب وبطرس وسواهم انسحقوا، فعلى كل إنسان أن ينسحق أيضاً. إبراهيم رأى الله رمزياً، أما انا فاتناول جسد الرب فعلياً، لذلك انا بحاجة الى الإنسحاق أكثر من بطرس وأشعياء وايوب وسواهم من المنسحقين. امام ذبيحة الصليب يحني المرءُ رأسَه ويلتصق جبينَه بالارض وهو يصرخ من الصميم ” ربي، ربي، ربي أنقذني من حمأة أفعالي الشريرة ” . لا يستطيع إنسانٌ في العالم أن يفتخر بطهارته. لو وجِدَ إنسانٌ واحدٌ في العالم بلا شائبة، بلا مأخذ، لكان تجسُّد يسوع المسيح ممكناً وغيرَ ممكنٍ. مات يسوع على الصليب من أجل أمِّه ومن أجل كل الناس. آدم وحواء وسلالتهما منغمسون في الإثم، مجبلون بالإثم وقابعون في الإثم. الإثم هو صبغَتُهم، مصبوغين برمَّتِهم بالإثم، ليس فيهم شيءٌ طاهر. ولكن دم يسوع المسيح هو الذي يطهِّرنا من كل خطيئة إن إعترفنا بخطايانا وتبنا عنها توبةً حقيقيةً.
التوبة ملازِمةٌ للمناولة لا يمكن الفصل بينهما ولا يجوز أن يتناول إنسانٌ من دون توبةٍ. التوبة هي الشرط الأساسي للمناولة، بالتوبة والمناولة نتطهَّر باستمرار لذلك فحياة الإنسان المسيحي هي تطهُّرٌ متواصل بالتوبة والمناولة. ليست التوبة لمدةٍ وجيزة قبل المناولة، هي مهنة المسيحي ما دام على قيد الحياة حتى يلفُظَ أنفاسَه. التوبة للإنسان المسيحي هي مثل التنفس. يتنفس ويتوبُ معاً وتدور التوبة في كيانه كما يدور الدم في شرايينه وعروقه فاذن، التوبة للروح مثل التنفس والدم للجسد. هي التنفس، هي الدم، هي الرئتان. كلُّ كيان الإنسان توبة، روحاً وجسداً. يتوب بروحه وينسحق بجسده، يجثو على ركبتيَه ويصلّي الى الله بحرارة لكي ينال المغفرة. المناولة فريضة دائمة وكذلك التوبة فريضة دائمة. يبقى الإنسان طوال العمر مشرِّحاً لذاته. التوبة عملية تشريح روحياً. الأطباء يُشرّحون الأجساد في المقابض ويدرسونها خليةً خلية، والإنسان التائب يُشرِّح نفسَه خليةً فخلية ليكتشف مناطق البؤس ويزرع مكانها السعادة الأبدية. لماذا نتناول؟ نتناول لنتحوّل تحويلاً جذرياً من أُناسٍ ساقطين الى أُناسٍ متطهرين، الطهارة هي بيسوع لا سواه. لذلك نقف كلَّ يومٍ في الجلجلة أمام صليب المسيح راكعين ساجدين خاضعين تائبين باكين، أحشاؤنا ملتهبة بنار التوبة لنقول له ” ربَّنا إرحمنا، ربَّنا إغفر لنا “. ينتقل فكرُنا النيِّر التائب كلَّ يومٍ الى جبل الجلجلة ليقف امام يسوع في المزمور الخامس” أقف قدامك وتراني” كلَّ يومٍ علينا أن نقف روحياً في جبل الجلجلة امام يسوع ليرانا وليساعدنا على اكتشاف أنفسنا. يخاف كثيرون من رؤية أحوالهم، الناس كبروا وما زالوا اطفالاً. الطفل مهتم بالتدليل بأن يكون ذا حظوة عند أهله. في الطفل جوعٌ الى تقدير أهله له، الى الدلال، الى محبة الأهل ونحن علينا أن نكون جائعين ليقبَلنا يسوع المسيح، جائعين الى يسوع المسيح، لا إلى عواطف عابرة فارغة مؤقتة. الجوع الحقيقي هو الى يسوع المسيح. الجوع الى التقدير الذاتي المشوب بالكبرياء. المصيبة في الإنسان هي أن الكبرياء تملأ وجودَه ولذلك فهو عاجزٌ أحياناً عن الخشوع والتذلٌّل والتوبة. التوبة تحتاج الى التواضع، التوبة والتواضع هما متفقان متحدّان. الكبرياء هي التي تمنع إلتصاق الجبين بالتراب، الكبرياء هي التي تمنع الإنسحاق والتذلُّل والخشوع والتواضع والإرتماء امام الله، هي التي تمنع ذوبان الإنسان ندامةً. الندامة والتوبة تحوِّل الإنسان الجامد ذا القلب القاسي الى إنسان ذا قلبٍ ليّن. التوبة الحقيقية تحوِّل قلبنا القاسي الصخري الحجري الى الرقَّة، فلذلك الكبرياء وقساوة القلب يحرمان الإنسان من هذه الرقَّة، رقَّة المشاعر والأحاسيس والإنسحاق أمام الله. القلب القاسي عدوّ الله. رقَّة السامري الشفيق الذي اعتنى بالواقع على طريق أريحا، القلب الرقيق الحنون الشفوق، هذا ما نحتاج اليه في التوبة. القلب الخالي من كل ألوان الكبرياء والعجرفة والإنتفاخ. مَن يستطيع أن ينزعَ من الإنسان الكبرياء والعجرفة والعنجهية وشوفة الحال والإنتفاخ؟ التوبة. التوبة هي معملٌ كبير لإنتاج الفضائل، يُتلِف الكبرياء وكل الرذائل لتتحوَّل الأمور الى فضائل. الجهادُ في الفضيلة مَهمَّة العمر فلذلك فالتطهُّر عملٌ متواصل ليلاً ونهاراً. ليس من وقتٍ معيَّن للتطهُّر ووقتٍ آخر لغير التطهُّر، أعمل في الليل والنار لتطهيري من كل الشوائب. ما مهنتي؟ مهنتي تطهيري في أُتون النار ليُحرق خطاياي ويجدِّد بُنيتي. كيف صار القديسونَ قديسين؟ بالتوبة المتواصلة انتقلوا من أطفالٍ الى رجال كدودين بجهودهم المتواترة التي لا تَفتر ابداً. هل من وقت للتوبة؟ كلُّ الوقت هو وقت التوبة ولذلك عاش المسيحيون حوالي العشرينَ قرناً ينطحون الأرضَ بجباهِهم توبةً وندامةً ورِقَّةً وانسحاقاً حتى بلغ بعضهم درجةً عالية من القداسة. ما هي القداسة؟ هي التوبة. ما هو البِرّ؟ هو التوبة. التوبة هي الأساس وكل الفضائل هي ثمار التوبة. التوبة هي الباب الرئيسي لكل الفضائل فبالتوبة تصير الفضائل سماوية، بالتوبة يتحوَّل كيان الإنسان من التراب الى السماء فلذلك يجب التشديد دوماً على التوبة كعنصرٍ أساسيٍ في الحياة المسيحية لا بل التوبة هي لبُّ الحياة المسيحية. الحياة المسيحية بدون التوبة مفقودة. إنتفاخ البعض بأنهم مسيحيون هو باطل، لا فخر الا فخر التوبة. التائب يفتخر بالله الذي غرَسَ فيه التوبة. التقرُّب الى الله يكون بالتوبة،. العالم عالمُ إثمٍ أما عالم التوبة فهو عالم البِرّ والقداسة. التوبة هي التي تصنع القداسة والقداسة هي التوبة. قديسٌ غير تائب هذا غيرُ موجود. في الإنسان أهواء، وهذه الأهواء تحتاج الى تحويلٍ. كيف نحوِّلها؟ بالتوبة. فلان غَضوب، كيف يتحوَّل من إنسانٍ غضوب الى إنسانٍ وديع؟ بالتوبة. الفضائل تُقتنى بالتوبة، تتحوَّل الرذائل عن مسيرتها وتُصبح قائمةً في التوبة. لذلك فعمل التوبة ينصبُّ على الأهواء لنحوِّلها عن مجراها المشؤوم الى مجرى الفضائل. وكيف يكون ذلك؟ بتطهير الذات. وكيف يتمُّ تطهير الذات؟ بالتوبة. وماذا تفعل التوبة؟ التوبة تُحوِّل مجرى حياتي من إنسانٍ أهوائي تافه الى إنسانٍ سماوي. النعمة الالهية لا تلتصق بالأهواء الساقطة ولكنها تساعدنا على تحويل الأهواء الساقطة الى أهواءٍ بارَّة نقية طاهرة. فيا يسوع المسيح يا ابن الله الحي الطويل الأناة، أسبُّحكَ أُبارككَ وأشكرُكَ على كل الأمور والخيرات التي منحتَنا إياها، نشكرُكَ على ذبيحة الصليب التي نسمّيها الإفخارستية أي سر الشكر الالهي، سرُّ شكرٍ لأننا نشكرُك على هذه العطية الثمينة. أيُّ عطيةٍ في الدنيا تُعادل هذه العطية الثمينة؟ فمن أجل ذلك نسبُّحُك ونباركُك ونشكرُك ونسجدُ لك في كل موضعٍ من مواضع قداستِك. انت ايها الرب الاله يسوع المسيح إرحمنا وخلصنا آمين.