كتب الأب اسبيرو جبور
الأب الشيخ الروحاني الياس اسبيرو مرقص
وحبةُ الخردل
نورٌ ساطعٌ في ظلام القرون الدامِس
في أمثال الرب يسوع المسيح مثَلٌ عن ملكوت الله. إنسانٌ زرعَ حبَة خردلٍ في حقلٍ فأفرَعت ونمَت وأصبحت شجرة.
الأب المغبوط الياس مرقص زرع حبَةَ خردلٍ في اللاذقية فنمَت وصارت شُجَيرةً. لا أقولُ شجرةً لأن تاريخ هذه البلاد تعرَض لضرباتٍ عديدة. ولذلك نحتاج الى مئة عام لكي تُصبح شجرة الخردل شجرةً كبيرةً وربما صارت بعدَ مئةِ عام دوحةً والله أعلم.
لا يمكن أن نفهم عمل المغبوط الأب الياس إلا بنبذةٍ تاريخية ولو موجَزة عن الأوضاع العامة في اللاذقية وفي المنطقة. وحينذاك سيبينُ للعِيان أن الأب الياس مرقص هذا الإنسان الذي خلَدَ معلِمَه الرب يسوع المسيح فهو وضعَ حبَة خردلٍ لا في حقلٍ جيدٍ بل في صحراء، بل في صخر. قد يجد البعض في كلامي مُغالاةً ولكن المعروف عن اسبيرو جبور أنه المحامي الصادق المستقيم، وإيجادُ محامٍ صادقٍ مستقيم هو غالباً من رابع المستحيلات. طبعاً عواطفي نحو الأب الياس شديدةً لأننا رِفاق العمر ولكن الحقيقة تسيطر على عواطفي إنلم تكن مئة بالمئة فهي 95 بالمئة فانا لا أنحرف عن الحقيقة إلا عن خطأٍ، وإن سكتُ حيناً عن الحقيقة فلكي أتجنَب متاعبَ للآخرين. الحقيقة عندي هي مقدسَةٌ وقَول الحقِ عندي مقدَسٌ ولكن ويا للأسف الشديد نحن موجودون في شرق المتوسط، وسكان الشرق المتوسِط هم حسَاسون، أنانيِون، فرديون، سريعو الغضب، نرفوزيون، لا يستطيعون أن يضبطوا غَيرَتهم وحسَدَهم بسهولة، فهم يحتاجون الى حمامٍ روحيٍ الهيٍ لكي يتخلصوا من الحساسية ويتعلَموا رحابة الصدر وطول الأناة والصبر والتجدُد والرفِق بالآخرين.
1 آذار 2011
مقدِمَة تاريخية
الكرسي الأنطاكي هو الكرسي الجبار بين الكراسي الرسولية وذلك بسبب صمودِه عبر التاريخ على متاعبٍ لا تُعد ولا تُحصى. كتبَ اليَ صديقي الكبير جان كلود لارشيه يقول ” انتَ مُتعصِب لقومِك” فأجبتُه “انا لست متعصِباً لقومي ولكن اليك تاريخ الأرثوذكس في الكرسي الأنطاكي”. قال: “بلادُكَ أخرجَت هراطقة كثيرين” فأجَبتُه “هذا صحيح ولكن لا تنسى أن أوفياء الكرسي الأنطاكي بقَوا أوفياء لكرسي القسطنطينية حتى يومِنا هذا، أي أنهم ثابتون على اورثوذكسيَتِهم بقسطنطينية الطبع” ولكن انا أعلم ايضاً أن القسطنطينية لاهوتياً وطقوسِياً هي إبنة الكرسي الأنطاكي. فمَن يُدقِق في التاريخ يتكلَم الحقيقة. لا أستطيع في هذه العُجالة أن أُسجِل كل التاريخ الأنطاكي. فما كتَبَه المرحوم الدكتور أسد رُستم وما كتَبَه ايضاً رئيس أساقفة أثينا المثلَث الرَحمات خريسوستوموس صحيحٌ ولكنَه ناقصٌ. أرَخا للإكليروس والمجامع ولم يؤرِخا للشعب.
كتابةُ تاريخ الشعب الأنطاكي هي الأهم. هذا الشعب العظيم هو الذي يستحق أن نكتُبَ تاريخَه. سأذكر نماذج تُعطي صورةً عن هذا الكرسي الأنطاكي العظيم.
في العام 449 إنعقدَ مجمعٌ في أفسس فلم يحضَرهُ من الكرسي الأنطاكي سوى 15 الى 22 عضواً ولكن في العام 451 عُقِدَ في القسطنطينية المجمع الرابع المسكوني العظيم فحضَرَه من الكرسي الأنطاكي الحالي 130 عضواً. هذا المجمع فصَلَ فلسطين عن الكرسي الأَنطاكي فاذا ضَمَمْنا أرثوذكس فلسطين الى اورثوذكس الكرسي الأنطاكي بانَ ما في الكرسي الأنطاكي الكبير من عظَمَة.
ولكن، نُكِبنا في مطالع القرن السادس الميلادي وكنا قد نُكِبنا ايضاً في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، إلا أن النكبة الكبرى كانت على يد الأمبراطور أنثتاسيوس الذي حاول تمزيق أورثوذكس الكرسي الأنطاكي فخرجوا من حكمِه في العام 518 وحيدي الجانح ليس لديهم مَن هو مستحقٌ للكرسي البطريركي. ما طالَ الأمر حتى أنعمَ الله علينا بالبطريرك القديس أفرام الآمدي وبالبطريرك القديس العظيم انستاسيوس. إندسَ أُسقُفٌ فلسطينيٌ هرطوقيٌ على الأمبراطور جوستينيانوس الكبير وحاولَ أن يدُسَ عليه هرطقة جوليانوس المصري القائلة بأن جسد يسوع المسيح بريءٌ من الفساد فحارَت المسيحية في الأمر. إنعقدَ المجمع المقدَس الأنطاكي من 153 عضواً برئاسة البطريرك أنسطاسيوس في العام 565 مصمِماً على تقديم الإستقالة الكاملة إلا أن الموت أخذَ الأمبراطور جوستينيانوس فإرتَحنا منهُ ومن هرطقتِه.
في الصفحة 154 من كتابي ” سر التدبير الالهي ” يرى المرءُ تفصيلاً للموضوع وكيف أن دنيا المسيحية إتجَهت الى المجمع الأنطاكي غرباً وشرقاً ليقف في وجه الأمبراطور جوستينيانوس، حتى فرنسا البعيدة وقفت الى جانب المجمع الأنطاكي والعالم المسيحي وإنتظرت ما سيصدر عن المجمع الإنطاكي من ردٍ وصمود ليضعوا الأمبراطور عند حدِه ويوقِف تورُطَهُ، ولكن الله حلَ الأمر فأخذَ جوستينيانوس اليه. تداولَتنا الأيام بصورةٍ مختلفة فأصابَتنا ظروف الدهر أشكالاً وألواناً وكان لسقوط الدولة الأمويَة أثراً كبيراً على بلاد الشام فإجتاحها العباسيون كما كان يجتاحُها الآشوريون والكلدانيون وسواهم وتفكَكت القُرى وتفسَخت البلاد.
في كتاب الدكتورة أمينة البيطار هنالك 277 عاماً من تاريخ بلاد الشام بعد سقوط الدولة الأمويَة، ما هبَ ودبَ من أخبار تجرح الإنسان في الصميم. دواوين الشعراء وكتُب الأُدباء مُترَعَة من ذكرياتٍ جارحة جداً.
جاء القرن الحادي عشر فحَكَمَنا الأتابكة فكانت الأيامُ سوداء. الزمخشري، الكاتب الكبير، هو صاحب المقامات. في “مقامة العُزلة ” في الصفحة 79، ما يقشعرُ له البَدَن من نفورِهِ الهائل من الناس وذم لأخلاقِهم وطِباعِهم. فهو ينصح بالعُزلة وباللجوء الى الكهوف والمغاور. الزمخشري ولِد في العام 1075 في ايام الأتابِكة ومات في العام 1144 فهو قد عاشَ هذه الحقبَة المظلمَة من تاريخ بلاد الشام.
وها الصليبيون يفِدون الى هذه البلاد، فتعاون ناسٌ من هنا وهناك معهم. الدكتور سهيل زكار ذكرَ تاريخ جامعة دمشق. كتبَ مرة ما زعمَ أن النصوص المتعلِقة في الحروب الصليبية ليست متوفِرة جميعاً في اللغات الأجنبية، فكتبتُ اليهِ أُعلِمُهُ أنها جميعُها موجودة في مُجلَداتٍ طويلة عريضة في المكتبة الوطنية في باريس. ربما حصل على فوتوكوبي عنها، فوقف في العام 2008 على التلفزيون السوري يُعلِن بشهامة أنه راجعَ كل النصوص المتعلِقة بالحروب الصليبية فلم يجد أورثوذكسياً واحداً تعاونَ مع الصليبيين في بِلادِنا، وهذه شهادةٌ عظيمة من مؤرِخٍ كبير.
في تلك الأيام أي في القرنَين الثاني عشر والثالث عشر كان الأرثوذكس في بِلادنا لا يزالون جبابرة في المقاومة بالتمسُك بعُرى الأرثوذكسية الصادقة ولكن كرَ الزمان وحكمَ بلاد الشام الأكراد، والأكراد يجهلون العربية وطِباعُهم حادة. فأخذَت البلاد تتراجع حضارياً وثقافياً. قبلاً، كانت بلادُنا بلاد الحضارة والثقافة. فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد حلَت بلادنا محل اثينا في الآداب والفنون الجميلة، وتغلغلَت الفلسفة اليونانية في بلادِنا بنصِها اليوناني أو بترجمتها السريانية ثم بترجماتِها العربية.
ألم يكن قصر سيف الدولة في حلب يحوي رجالَ فِكرٍ وفلاسفة؟ واذا صحَ أن “رسائلَ إخوان الصفا” كُتِبت في سوريا كما قال صديقي الدكتور عارف التامر، فهذه الرسائل هي رسائل العلوم والفلسفة اليونانية. ولكن هذا أخذَ يضمحِلُ شيئاً فشيئاً.
فتحَ الأكرادُ اللاذقية وكانت اللاذقية آنذاك مدينةً جميلة جداً كما وصَفَها مؤرِخ الأكراد وهو حزينٌ على ما جرى فيها من تخريبٍ. إنما بقيَت اللاذقية متينةٍ الى حدٍ ما. الأرثوذكس هزموا الأكراد وقالوا لهم نحن بَطَليون ولسنا صليبيين. تمَ ترحيل الصليبيين بواسطة القاضي الشرعي في جبلة الذي كان صديقاً لهم وكان قد حلَ وسطاً بين الطَرَفَين.
المؤرِخ الجليل الأب ديميتري اثتناسِيو في كتابِه “سوريا المسيحية في القرون العشرة للميلاد” يذكر أن اللاذقية كانت تتكلَم اليونانية في القرن الثالث عشر. إبن بطوطة مرَ عليها فذكر أن دير الفاروس هو اكبر دير في مصر وبلاد الشام وذكر سلسلتَين موجودَتَين في المرفأ وهي من اللفظ اليوناني. الألفاظ اليونانية إستمرَت في اللاذقية ولا تزال مستمرَة حتى يومنا هذا في المواقع وحتى في الإستعمال، فعلى سبيل المثل نُسمي الحمص الأخضر المشوي ميلاني. ميلاني لفظة يونانية تعني سوداء، ,كذلك التسميات في اللاذقية وحوالَيها هي تسمياتٌ يونانية.
قسا الأمرُ على الأرثوذكس في العهد العثماني. العثمانيون هم أعداء الفِكر والمدارس والعِلِم، يُحوِلون الناس الى حجارة. أغلقوا المدارس، أكرهوا الناس على العيش كأنهم أطياف، ظلال. وتراجعَت المدَنية والحضارة شيئاً فشيئاً، فكان قرن السابع عشر قرنُ الظلمة. فتأخرَت أوضاعُنا كثيراً وبلغَ الظُلمُ حداً فاحشاً، طبَق العثمانيون كتاب إبن قيِم الجوزية وعنوانه “أحكام أهل الذمَة في الإسلام”، فعاملونا معاملةً رديئةً جداً. وساءت الأحوال الإجتماعية والإقتصادية وإنطفأت معالم الفكر والمعرفة، وتحوَل الناسُ الى أعوادٍ من الخشب اليابس فكانت عقولهم متحجِرة وغير قابلة للإستيعاب. وكانت المصيبة الكبرى هي في طمس المنطق، فلم يعد لدينا المنطق مع اننا أخذنا في الماضي منطق أرسطو وكنا منطقيِين ونُبهاء. فلم يبقى فكرٌ ولا علمٌ ولا ثقافةٌ فدَخلنا في سردابٍ مظلمٍ.
في القرن التاسع عشر، نرى اللاذقية بلدةً صغيرة على شاطىء البحر المتوسط قد أصابها زلزال 1796 فخرَبها تخريباً واسعاً ومات مَن مات وبقيَ مَن بقيَ ولكن عدد المفقودين كان كبيراً. لا ندري متى طمَست الزلازل دير الفاروس ولم يبقى للقرن العشرين من الآثار في اللاذقية سوى قوس النصر الذي بُنيَ لإستقبال الأمبراطور سبتيموس ساويرس واعمدة يونانية لهيكلِ باخوس. ولكنَ الحفريات لشقِ الشوارع ولشقِ المصالح للمياه والصرف الصحي منذ العام 1920 وُجِدَت كميةً كبيرةً من الأعمدة. في العام 1936 شُقَ الشارع الكبير الذي سُميَ فيما بعد شارع القُوَتلي، فبقيَت الأعمدة تحت الأرض لأنه لم يكن من رافعاتٍ في ذلك الوقت. فنرى أن شوارع اللاذقية القديمة كانت مجمَلة بالأعمدة وكانت تمتدُ من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب، أي كانت متصالبة وقد حافظ الإنتداب الفرنسي على هذا المخطَط.
في القرن التاسع عشر، بدأت بعضُ العائلات الأرثوذكسية بالهجرة الى اللاذقية. فاذا إنتبهنا الى الأسواق نعرف أن وراء اللاذقية حلبيون وحمويون وشاميون ولبنانيون. في اوائل القرن العشرين كان عدد النفوس محدوداً في اللاذقية ثم أخذَ هذا العدد يتزايد شيئاً فشيئاً بالهجرة من محلاتٍ عديدة من القرى والمدن المتنوعة في سوريا ولبنان.
في العام 1858 أُصدِرَ نظام البطريركية المسكونية في القسطنطينية. الأنطاكي فصار في الكرسي الأنطاكي مجالس مِلِيَة وفي العام 1865 حلَ في اللاذقية مطراناً عظيماً وهو ملاتيوس الدوماني الذي صار في العام 1897 البطريرك الدوماني. يبدو من تاريخ رياض الصالح ان القناصل كانوا يُتعِبونَه، والقناصل كانوا يُمَثِلون دُوَلَهم فلم يخطر على بالِ أحدٍ على ما أعلَم إستحضار تقاريرِهم من دُوَلِهم. فكان الأتراك يُعاملون الأهالي معاملةً شاذة جداً، فالقضاء فاسدٌ والأدارة فاسدٌة والزعامات المحلية كانت ذات سلطةٍ.
وكانت في اللاذقية طبقة من الفقراء يُسميها الياس صالح “الأسافل” ويا للأسف الشديد، رجل مؤرِخ وأديب وشاعر، كيف يحتقر الناس هكذا. يذكر فساد القضاء والإدارة وتلبُك الأمور، وما كانت اللاذقية في ذلك الحين على شيءٍ من الجمال. البناء عتيق، واللاذقية الجميلة السابقة قد خسِرَت جمالها. إنما بقيَ اللاذقيون يُحبون الطرب والموسيقى. كلَفت النساء الشاعر الياس صالح أن ينظِم لهنَ قصائد للغناء في الصوم الكبير بدلاً من الأغاني المتداوَلة، وهذا يدلُ على أن نساء اللاذقية في ذلك الحين كُنَ تقيات وقد إستمررنَ هكذا منذ ذلك الوقت حتى اليوم.
في 5 تشرين الثاني 1918 وصلَ ضابطٌ فرنسيُ الى اللاذقية فإجتمعَ ببعض الأهالي، لكنَه لم يزُر المطرانية. كان قد مرَ قبلاً على طرابلس فإستقبَلَه الناس وبينهم مطران طرابلس الأرثوذكسي الكسندروس الطحان الذي وقف ضد الإنتداب الفرنسي. دولاروش هذا، الضابط المذكور لم يكن صديقاً للأرثوذكس.
المطران ارسانيوس في اللاذقية وقف ايضاً ضد الإنتداب الفرنسي لأن البطريرك غريغوريوس حداد كان قد صار مع الملك فيصل الذي حلَ في دمشق. ولذلك فالأرثوذكس كانوا مع فيصل إنما الظروف أدَت الى مبايعاتٍ فرنسية-إنكليزية.
كانت الصهيونية العالمية حليفةً لهما فإنتهت في الحرب العالمية الأولى بسقوط الدولة العثمانية والدولة الألمانية والدولة النمساوية والقيصرية الروسية، فخرجت هذه الدُول من طريق فرنسا وبريطانيا. حينئذٍ فرنسا وبريطانيا أطلقتا العنان لنفسَيهما للتعاون مع الصهيونية العالمية لأن لويد جورج كان صهيونياً وتشرشل ايضاً صهيونياً ووزير الخارجية بلفور كان قد أعطى الوعد لإسرائيل، ولورانس الشهير كان ايضاً صهيونياً وكان يتظاهر بصداقة العرب فقام بجمع الأمير فيصل الأول في 5 اذار 1918 بوايزمان اليهودي في العقبة. ولكن قيلَ لي إن فيصل لم يُوَقِع الوثيقة المكتوبة. لورانس كان قد جمع بوايزمان ايضاً زعماء فلسطين وذلك في القاهرة في العام نفسه. رفضَ الفلسطينيون التعاون مع وايزمان وكانت النكبة كبيرةٌ في تركيا في القسم المغتصَب من الأراضي السورية.
تسبَب الغرب بإستشهاد مليون ونصف أرمني ومئة ألف سرياني وعشرة آلاف كلداني. بعد الحرب، سُلِمَت تركيا الى يهود الدوما، وإفتُعِلَت حربٌ بين اليونان وتركيا فذهب ضحيَتها مليون وسبعة مئة الف أورثوذكسي. ثم هُجِرَ الأرمن والسريان والأرثوذكس الى دنيا الله الواسعة وبقيَت تركيا خاليةً من المسيحية تقريباً.
سلَمَت فرنسا وبريطانيا لواء الإسكندرون الى تركيا في العام 1939 وطلبَ القنصل العام لبريطانيا في بيروت من المفوَض السامي الفرنسي غابريل Puau تسليم حلب لتركيا فرفض. ولكن سرَت الشائعات في سوريا منذ ذلك الوقت الى يومنا قائلةً بأن حلب هي لتركيا. في العام 1955 قامت محاولة من هذا النوع لتقسيم سوريا، فتدَخلت روسيا وأنزلَت تركيا.
في العام 1923 سافر كليمنصو الفرنسي والمارشال فوش الى بريطانيا ووقعا على الإنسحاب من جزءٍ من إتفاقية سايكس بيكو، فتخلَت فرنسا عن هذه المناطق لتركيا لأن معاهدة سايكس بيكو توصِل الإنتداب الفرنسي الى قسمٍ من الأناضول، وأُعطيَ الموصل السوري الى بريطانيا وهكذا كانت كارثةً كبرى.
مَن دفعَ كليمنصو والمارشال فوش الى هذا التوقيع؟ برفسور في ال Collège de France كتبَ في Le monde diplomatique في العام 2003 مقالاً في الموضوع يُدافع فيه عن فرنسا زاعماً أن إلتزاماتِها العديدة أجبرَتها على التخلي عن هذا القسَم، والحقيقة أن التخلي كان لصالح الصهيونية التي كانت تُدير فرنسا وبريطانيا.
فرنسا وبريطانيا والمانيا والنمسا، ملوَثات الأيدي بدماء المسيحيين في هذا الشرق. أقامت فرنسا دُويلةً على الشاطىء تمتدُ الى النهر الكبير الجنوبي، فسَلخت وادي النصارى عن طرابلس وضمَتهُ الى هذه الدُوَيلة التي تشمل ايضاً قضاء مصياف. فرنسا تجلب معها الحضارة هذا لا شكَ فيه، فشقَت الطرق وبَنَت مدرسة التجهيز في العام 1924 ونظَمت القضاء والشرطة والدرك والمالية فأقامَت بنية حضارية.
كان الروس والأميركان ايضاً قد أسَسوا مدارسَ، فتعلَم المسيحيون. ولما إستلَمت فرنسا الحكم إحتاجت الى الموظفين فلم تجد أمامها سوى المسيحيين في اللاذقية وصافيتا ووادي النصارى وسواهما من سكان الساحل، ولم يكن ذلك كافياً فإستحضرت بعض اللبنانيين. شغلَ اللبنانيون مناصباً في اللاذقية في التعليم والإدارة وسواه. ظهر السجل العقاري في العام 1926 فقام في اللاذقية سجلٌ عقاريٌ أصلي هو غاية في الدقَة. لما صرتُ محامياً في العام 1947 كان مدير السجل العقاري في اللاذقية شبيهاً بأشرف القضاة، رجل نزاهة وشرف وإستقامة وفَهم وكانت دائرتُه نموذج عالمي في النزاهة ودقَة العمل. فمن الناحية الحضارية لا شكَ أن الجو كان حضارياً. ولما كنتُ محامياً في العام 1947كان القضاء زينة من الزينات. كان القضاة ممتازين جداً وليس القضاة فقط إنما الكتاب ايضاً. ولكن، ماذ يمنع النيات السيئة عن الطعن بالأرثوذكس.
في العام 1923 أجرَت فرنسا الإنتخابات، فكانت الدُويلة برمَتها دائرةً إنتخابية واحدة تنافسَ فيها لائحتان. رئيس كلٍ من اللائحتَين أورثوذكسيٌ لاذقيٌ. واحد تدعمه فرنسا والثاني تدعمه بريطانيا وكانت فاتورة الحساب على حسابَيهما. فشُقَت الطائفة بصورةٍ هائلة جداً في المدينة والقرى وكل مكان، وإشتدَت العداوات بين الطرفَين. وأنفقَ رئيسا اللائحتَين أموالاً طائلة بالليرات الذهبية حتى أصابهما الكَلَل في الثلاثينات فوقف المطران أرسانيوس بين الطرفَين وقفة الرجل الشجاع المستقيم النزيه. لم يكن ارسانيوس مثقَفاً، لذلك خلا عهدَه من التعليم والتربية الدينية الدقيقة.
مات البطريرك غريغوريوس حداد عام 1928 فإنتخب المجمع المطران ارسانيوس قائمقاماً بطريركياً وجرت المنافسة بينَه وبين الكساندروس الطحان مطران طرابلس. أشعلَت فرنسا النيران بين الطرفَين. فإنتخب ثمانية مطارنة، أرسانيوس بطريركاً حلَ في اللاذقية. وإنتُخب ثلاثةٌ الكسندروس فحلَ في دمشق وأخذت فرنسا تُذكي النار بين الطَرَفَين. مات ارسانيوس فبايع المطارنة الكسندروس، ولكن بقيَت النفوس غير مُطَهَرة فإندلعت النارُ من جديد في حمص وكانت مشكلةٌ كبيرةٌ إنتهت بحلول مطرانَين في اللاذقية هما المطران تريفون الأصلي وابيفانيوس وأعطَت فرنسا رخصةً لأبيفانوس لإنشاء كنيسة مستقلَة، فشَقَ الكرسي الأنطاكي. أخذت فرنسا تُذكي النيران فتمَ تمزيق الطائفة في اللاذقية شرَ تمزيق وأخذت المناحرات تتطوَر وكلٌ من الطرفَين يُضعِف الآخر، حتى وصلَ الطعن الى صوب المطرانَين تريفون وابيفانيوس .كان أتباع أبيفانيوس ينتفخون بصوتِه الجهوري وهو موسيقيٌ ورسام وشاعرٌ وكاتبٌ جليل فيرُدُ عليهم أتباع المطران تريفون “عبد الوهاب يا ليل يا عين” لأن ابيفانوس كان يُدخِل الموسيقى العربية في الترتيلة. اما تريفون فهو صاحب الصوت الملائكي والمرتِل البيزنطي الرائع، لم أسمع مرتِلاً يدنو من المطران تريفون في جمال الصوت الخلاب. كان تريفون وديعاً لا يعِظ، اما ابيفانيوس فكان خطيباً مُفوَهاً ولكنه كان يخطب باللغة الفصحى فلم يستفد أحدٌ منه إلا قليلاً.
إستمرَت المشاحنات ووصلت أحياناً الى خطر وإصطدام ولا حاجة لذِكر هذا التاريخ الأسود. في عام 1940 دُشِنَت كنيسة القديس جاورجيوس بإحتفالٍ رائع رتَلَ فيه ثلاثةُ مشهورين وكان قد أنشأ المطران تريفون جوقةً بلغت الروعة في الترتيل ولكنَه لم يستمر ولم تستمر معه الجوقة. في هذه الظروف البائسة كيف كان الوضع من جهةٍ أخرى في اللاذقية وخارجها؟ الأزمة الإقتصادية العالمية أثَرت في تجار اللاذقية فأفلسَ بعضُهم وإهترىء وضع البعض الآخر وحلَ الفقرُ في المدينة. فكانت طبقةُ فقراء جديدة في المدينة تحلُ في قلايا إسمها دار السيدة. لم يكن عندنا رهبان في ذلك الزمان ولكن عدد القلايا فيها كان كبيراً نسبياً. أما في خارج اللاذقية فكان الوضع ايضاً سيئاً وبخاصة في دمشق وحمص وطرابلس حيث إندلعت الخلافات، فغادر بطريرك دمشق الى دير البلمند ولم يعُد إلا في العام 1942…
لما إندلعَت الحرب العالمية الثانية في 1 ايلول 1939 إستيقظت فتاةٌ إسمها اوديت وديع سعادة وشعرت بالخطر الذي سيُداهم الفقراء، فأسَست جمعية أصدقاء الفقير وبقيَت ترعاها وترعى الفقراء والمرضى خمسين عاماً حتى ماتت فخلَفتها إبنةُ أختِها منى بدر ثم خلَفتها أختُها سارة بدر. شجَعت الحرب صناعة التبغ لأن العسكر كانوا بحاجة الى التبغ فإستفاد الفقراء في العمل في دائرة التبغ والتنباك وهكذا إنتعشوا بنسبةٍ ما.
في هذه الظروف كيف كان وضع اللاذقية الثقافي الأرثوذكسي؟ بسبب العهد العثماني الذي جمَدَ العقول، لم يكن تفتُح العقول ممكناً. البعض سافر الى مصر والسودان فتعلَم هناك ثم عادوا الى اللاذقية ليشغلوا المناصب. كان أحدَهم إدوار مرقص وكان فحلاً من فحول اللغة العربية كلغة. علَم في المدرسة الرسمية ولكنه لم يُحِط نفسَه بمجموعة يصنع منها فحولاً او اشباه فحولٍ.لم يترك لنا شباباً لامعين.
لم يكن في اللاذقية في الثلاثينات سوى عدد لا يتجاوز العشرة او الإثني عشر من المحامين والأطباء والمهندسين، ولم يكن لهم نشاط علمي او ثقافي، وما كانوا يلعبون في المدينة أيَ دورٍ ثقافي. ولما أُنشِأت البكالوريا، أخذ بعض الناس يحصلون على البكالوريا الأولى وقلَ مَن حصلوا على البكالوريا الثانية وهكذا لم يكن في اللاذقية جوٌ ثقافيٌ فكريٌ.
الإداري الكبير المستقيم
في العام 1935 دخلتُ مدرسة الفرير تلميذاً فكان مرسال مرقص أي الأب الياس لاحقاً، طالباً في الصف العاشر على ما أذكر يمشي بعزم دون سواه، لا يرفعُ رأسَه كثيراً وكان نبيهاً وذكياً وهادئاً، يسيرُ في الشارع بهمَةٍ ونشاط ولكنه لا يُسرِع. حصل على البكالوريا الأولى، وأظن أنه حصل على البكالوريا الثانية من بيروت في العام 1937-1938. في العام 1939 كان يُعطي بعض الدروس في مدرسة الفرير، لم أعد أذكر نوع هذه الدروس إنما أذكر أنه إمتحنني في العام 1939 في مادة التاريخ فلم أكن لامعاً، كنتُ في ذلك الوقت أحب الرياضيات فكنت فيما يُسمى اليوم في الصف الثامن، بالفرنسية 4ème وال 4ème بالفرير كان صفاً مهماً كثير لأن الأستاذ المرحوم حبيب الياس كان يشدُ الحبل على رِقابِنا بجدِيَتِه وإخلاصِه وتفانيه. كان الدوام في المدرسة ثمانية ساعات ونصف. من الساعة السابعة إلا ربع صباحاً حتى الساعة الثانية عشر إلا ربع، ومن الساعة الواحدة بعد الظهر حتى الساعة الرابعة والنصف بعدالظهر. وكان الفريرات يهتمون جداً بالفروض. الدوام طويل والتدريسُ شديد، والفروض كثيرة، والراحة الأسبوعية كانت الخميس بعد الظهر والأحد بعد الظهر. كانوا يُجبروننا على الحضور بعد ظهر الأحد بحجة الرسم، ولكن لكي يمنعوا الأرثوذكس من حضور القداس الالهي في كنائسهم. فكنا نحضر قداساً مارونياً بالسريانية لا نفهم منه شيء ولا نتجاذب معه، وكان هذا يجرحنا بنسبةٍ ما لأنهم كانوا يحرمونا من حضور القداس الأرثوذكسي عند مطارنة ذوي اصوات رخيمة.
ولذلك نشأ الكثيرون غير مرتبطين مئة في المئة بالطقوس الأرثوذكسية. في العام 1940 إنتسب مرسال الى كلية الحقوق في بيروت فنال الشهادة في العام 1940. في العام 1941 سرحَ في التأمل في أوضاعِ الكنيسة في اللاذقية وهي في اشدِ الإهتراء. اللاذقيُون معروفون منذ القرن الثالث للميلاد بشهادة المؤرِخ المشهور افساريوس أسقف قيصرية فلسطين بالتحمُس للأمور الالهية وبالغَيرة الالهية. يحضرون القداس ولكن بدون فهم للقداس وبدون ثقافة دينية وبدون تربية دينية. حماس وغَيرة!! في تلك اللحظات وصل الأب الياس الى قناعةٍ مضمونَها هو الحاجة الى تأسيس عمل أرثوذكسي سماه “التقويم الأرثوذكسي” فكتب رسالة في 15 تموز 1941 الى صديقِه جبرائيل سعادة يدعوه فيها الى عمل أرثوذكسي سماه “التقويم الأرثوذكسي” وبقيَ يُفكِر بالأمر.
كان لديه شعورٌ عميقٌ بأن الكنيسة هي في وضعٍ بالغ الخطورة فتحتاجُ الى تطبيبٍ. كان ينصحُنا بأن نهتمَ بتطبيبها وكلُ حماسٌ لهذه المهمَة. كان يذكي فينا الهِمَمَ لهذا الغرض النبيل.
والآن، مَن هو مرسال مرقص؟ مرسال مرقص هو الابن الثاني للمرحوم اسبيرو إبن نجيب إبن اسبيريدون مرقص. ولدَ في 5 ايار 1921 في اللاذقي1. أصل العائلة يوناني من جزيرة كورفو. متى حلوا في اللاذقية؟ لم أستطع الوصول الى معرفة ذلك. فكان جده أبي سبيريدون مرقص سكرتيراً لقنصل روسيا المرحوم الياس مرقص. لم أستطع أن أعلم أبعد من ذلك. هل كانوا موجودين كعائلة قبل زلزال 1796 ؟ لا أدري. الياس صالح يذكر وجودَهم في القرن التاسع عشر. مرسال دخل مدرسة الفرير باكراً، فكان نبيهاً وذكياً. عاش بين إخوتِه الستة. أمُه هي نبيهة مرقص وكانت تهتمُ بالآخرة فكانت تسألني عن الحياة بعد الموت. أبوه متعلِم، يُجيد الفرنسية والعربية ويقرُدُ الشعر. إخوتُه: موريس ثم مارسيل ثم ماكس ثم مارك والبنات جوليا وميليا وناديا. الأسماء هي أسماءُ قديسين وإن كانت أجنبية. موريس هو القديس افريكوس باليونانية، مارسيل هو ماركيلوس، ماكس هو مكسيموس، مارك هو مرقس، جوليا هي القديسة جولياني، ميليا هي القديسة ميلاني، وناديا فقط هو إسمٌ غيُر يوناني. الأصول الدينية كانت مستمرة في العائلة. نال البكالوريا الأولى في العام 1937 أي كان عمرُه آنذاك 16 عاماً. في ذلك الحين كان ذلك شيئاً نادراً. إنتسب الى نقابة المحامين في مكتب المرحوم الكسي مرقص ولكنه لم يستمر إلا ستة أشهر. دخل الإدارة في ديوان محافظة اللاذقية وفي ديوان المحافظة، عاش ملاكاً مستقيماً محافظاً على القانون وعلى النظام. رُفِعَ الى رئيس ديوان ثم جاء الحكم العسكري في العام 1949 فرُفِعَ الى رئيس دائرة. عُيِن للاذقية محافظٌ عسكريٌ سابق وقهو قفقاسيٌ الأصل وضعيف المدارِك. فكانت مهمَة مرسال آنذاك غيُر سهلة لأن المحافظة كانت كبيرة والمعملات الإدارية كانت لا تخلو من الضعف بسبب إنعدام الشهادات العالية في ذلك الوقت، وبسبب العوائد المحلية والملابسات.
كان المحافظ ايضاً رئيساً للبلدية وكان أمين سر البلدية المرحوم حنا جبور فتعاون ومرسال. بقي يوحنا جبور يذكر لي مرسال مرقص ذِكراً حميداً حتى التسعينات في القرن العشرين.
كانت اللاذقية قد تمتَعت في الأساس بمحافظٍ ممتاز في العام 1943 هو الأمير مصطفى الشهابي وهو مثقف وعضوٌ في المجمع العِلمي العربي وهو وزيراً سابقاً. تلاه مظهر ارسلان وكان ايضاً وزيراً سابقاً ومحافظاً سابقاً ثم عاد الشهابي ثانيةً ثم جاءنا وزير قويُ الشكيمة إسمه عادل العظمة، إنتقل بعدها الى دمشق وزيراً للداخلية. فمن هذه الناحية، مُتِعت اللاذقية ببعض المحافظين المتينين فعاشَ مارسال معهم محترماً.
ذكرَه الأمير مصطفى الشهابي بذكرى حسنة لأحد الذين ذكروه أمامه، ولما صار مرسال رئيساً للدائرة، صار عملياً مسؤولاً كبيراً في محافظة اللاذقية الكبرى وصار عليه أن يُدير الأمور. الموظفون لديه كانوا أصدقاء يحترمونَه جداً، ولكن الذين تعلَقوا به الأكثر هم الآذنون. ما رآني آذنٌ مرةً، إلا أسرع اليَ في الشارع ليسأل عنه ويُهديه السلام. زملاؤه ايضاً بقوا أوفياء ايضاً لذِكره.
في التسعينات 1998 كنتُ ماراً بمقهى، فناداني أحدُهم لأجلس الى جانبه، جلستُ في المقهى فسألني عن الأب الياس. زِرتُ معاونه الذي صار فيما بعد رئيساً للدائرة مكان المرحوم عزَة سعد الدين وكان طريح الفراش فذَكرَهُ لي في الحسنَ، وقال انا الذي إقترحتُ على الإدارة أن تنتدبه لتنظيم شؤونها.
كان مرسال يستقبل الناس إستقبالاً هادئاً بإحترام، لا يحتقر أحداً. إحترامُه للآذنين أكبر دليل وبخاصة في زمانٍ كان الناس لا يحترمون الآذنين. يُصرِف الأعمال بلباقة. ما رأيتُ احداً ذمَهُ، ما سمعتُ في اللاذقية إلا المديح لحُسنِ إدارتِه وحسنِ تعاملِه مع الناس. يُحافظ على النظام، على الآداب، على كل ما هو حسَن. لا أذكر السنة، دخلتُ عليه مرةً فإذا بملفٍ كبير ضخم على الطاولة. سألَني عن هذا الملف الذي يتعلَق بخلافٍ على نبع ماء. أدركتُ للحال أن في هذا الملف مُلابسات لا يعلمها إلا الله وإنه محالٌ الآن اليهِ، وذلك للحصول على قرارٍ من المحافظ بتثبيت مَلَكيَة النبع للجهة الدافعة. فقلتُ له هذا خلافٌ على الملكية العقارية لا تصلَح الإدارة لفصلِه. هذا يحتاج الى قرارٍ قضائي فهناك نبعٌ يخصُ أرضاً معيَنة،وإن كانت هناك حقوق على الماء فالإدارة غير صالحة للبت. كلُ هذا هو من صلاحية القضاء.
أعتقد أنه أحال الأمر الى القضاء وهكذا إرتاح من الأمر ومن اعدائه. هذا نمطٌ من سلوك الأب الياس صاحب الوجدان الطاهر النقي الذي لا يتورَط. في العام 1956 نُقِلَ الى محافظةٍ أُخرى، ذهبتُ اليه ووجدتُه مرتاحاً فقال لي “حان لي أن أخرج من البيت”. ولذلك سار في خُطى أبينا ابراهيم ” أُخرج من بيتِك وأهلك وأرضك وشعبِك وأذهب الى الأرض التي سأُريكَ إياها ” . فكانت الخطوة الأولى للسير الى دير الحرف. حلَ قائمقاماً وإنتقلَ. لما كان في القطيفة، كان يذهب الى دير القديسة تقلا ليصلِي فإمتدحهُ لي رئيس الدير. إمتدح تقواه وإيمانه وإقترابه من الكأس المقدسة. نُقِلَ الى الوزارة في النهاية، لا اعرف ما الوظيفة التي شغلَها وكتبَ رسالةً الى ابيه يستأذنه بالسفر الى الدير. فوافقه أبوه على ذلك بكلِ نفسٍ كبيرةٍ. سافر مرسال الى دير الحرف في العام 1957 وكان قد بقي في العمل 15 عاماً فإستحقَ تقاعداً نسبياً.
لنعُد الآن الى الموضوع الديني وهنا تكمُن أهميَة الأب الياس مرقص. بقيَ كالنسر يحضُنُ الأفكار السماويَة.
في بيروت، كان الغليانُ كبيراً. جورج خضر والبير لحَام كانا يُقاومان مؤسسَة غربيَة تتدَعي أنها مسيحيَة. نجحا في النهاية في جمعِ ستَة عشَرَ عضواً فأسسَا في 16 أذار 1942 الحركة الأرثوذكسيَة وإنتخبوا جورج خضر أميناً عامَاً لها. كانوا كلُهم من طلاب اليسوعيِن في الحقوق والطب والهندسة. لم يصمُدوا طويلاً إنما صَمَدَ منهم جورج خضر والبير لحَام وجبرائيل سعادة وميشال خوري.
بمناسبة عيد الفصح عاد جبرائيل سعادة من بيروت الى اللاذقية فأعلنَ صديقَهُ مارسال مرقص بتأسيس الحركة الأرثوذكسيَة فإتَفقا على تأسيسها في اللاذقيَة. جمعَ إليهما طُلَاباً في مدرسة الفرير. جبرائيل عطاالله، الذي أظنُ أنَهُ كان قد تركَ المدرسة، وإبن أخ المطران زائد وجورج صالح الذي كان في صف البكالوريا الأولى.
أخذوا هؤلاء يدعونَ للحركَة. كان جورج صالح صديقي ورفيقي في الصف، فدعاني فلبَيتُ الدعوة. عَقَدنا إجتماعاً مُطَوَلاً مُفَصَلاً في بيت مرسال مرقص في يوم الإثنين في 11 أيار 1942 وإنطلَقنا بحماسٍ كبير. إلتفَ حواليَنا تلاميذٌ من مدرسة الفرير وتلميذاتٌ من مدرسة الراهبات فصِرنا نجمعُ حوالَينا التلاميذ. نظَمَ الأب الياس الإجتماعات. ألَفنا فِرَقاً، لكلِ فرقةٍ رئيساً. نقرأُ الإنجيل والرسائل الخاصِين بالأحد مع تعليقاتٍ من رئيس الفرقة.
أُنشِىءَ مكتبٌ ثقافيٌ، فكنَا نجتمع فيه للدراسات ولتحضير المواضيع. علَمنا الأب الياس إقتناء العهد الجديد فأسرعَ الناسُ الى إقتناء العهد الجديد وصار الفتيانُ يحمِلونَه في الجَيب عَلَناً. ونشأَ الناسُ على قراءة العهد الجديد إلا أن العقول ما زالت غير جاهزة لِعمَلٍ روحيٍ عميقٍ. ركَزَ الأب الياس على الليتورجيا والعهد الجديد. تحمَس تلاميذ الفرير وتلميذات الراهبات للمقارنة بين الأرثوذكسيَة والكثلَكَة، فنُظِمَت لائحة في ذلك ضُرِبَت على الدكتيلو ووُزِعَت فطالَعوها بشغَفٍ وحفِظوها.
مالَ جبرائيل سعادة الذي كان يُحب أم كلثوم والموسيقى العربيَة الى المطران ابيفانيوس صاحب الصوت الرخيم ومُحِبُ الموسيقى العربيَة ايضاً فصار ابيفانيوس يستضيفُنا في بيتِه فنجتمع لديهِ. في العام 1943 حضرَ من مصر جورج فيَاض وألقى محاضرةً بالفرنسية في بيت ابيفانيوس فصفَقنا له كثيراً.
أخذنا نسيرُ شيئاً فشيئاً بحماسٍ بالغ إلا أن الإستمرار هو المهم. أَخذَت الحركة تستوعب التلاميذ شيئاً فشيئاً فوجَدنا حماساً. هذا الموقف جَمَع تلاميذ من حِزبَي ابيفانيوس وتريفون. أخذَ الناس يبتهجون ويشعرون بإيجابيَتِنا. علَمْنا الناس الإنتباه للصلَوات ولحضور القداس الالهي، إلا أن الفريرات كانوا يمنعون الراهبات من حضور القداس الأرثوذكسي نهار الأحد. كان الفريرات مُخلِصين في التعليم ولكن أبعَدونا بنسبةٍ ما عن طقوسِنا الأرثوذكسيَة.
من أخَذَ يتحسَس؟ إنزعجَت الراهبات وإنزعجَ الفريرات وإنزعجَ الآباء البيض. كان الإنكليز آنذاك في سوريا يُنافسون الفرنسيِين وأمرُهُم كان يُحيِرُني. فكانوا يتنافسونَ هنا ويتعاونون هناك ومتى تصالحوا، ردَت بريطانيا عُملاؤها الى فرنسا ليقبَضوا من فرنسا والتفاصيلُ لديَ كثيرة. إننا في المدينة والحربُ بين الفرنسيِين والإنكليز كانت قويَة جداً والتدمير للطائفة الأرثوذكسيَة كان مستمراً 2 .
نحنُ تابَعنا المسيرة بنشاطٍ وهِمًة. فأخذ الناس ينضمُون الينا من المدرسة الرسميَة المسمَاة “مدرسة التجهيز” من فِتيان وفَتَيات. في العام 1944 إنتمى الينا موريس حدَاد الذي كان طالباً في التجهيز وكان من المجتَهدين فدَرس الحقوق وصارَ قاضياً. لعِبَ دوراً خالداً في التاريخ الى جانب البطريرك العظيم ثيودوثيوس ابو رجيلي بين الأعوام 1962 و1966. وصار ايضاً صديقاً كبيراً للبطريرك الياس معوَض.
هذا يكفي من كلامٍ ليعرفَ القارىء ماذا فعَلَ مارسيل مرقص في الكرسي الأنطاكي. فهو خرَج الأنداد، الأبطال. هو صاحبُ مدرسةِ الأبطال.
تابَعنا المسيرة ولكن تلاميذ الراهبات والفريرات لم يصمدوا كما يجب. فإمتدحَ الأب الياس في يومٍ من الأَيام تلاميذ المدارس الرسميَة.
جورج صالح تركَنا، وجبور عطاالله تركَنا،ً وتوفيق زائد سافرَ الى الأرجنتين. ما ثبُتَ معنا حتى النهاية من تلاميذ الفرير أحدٌ وما ثَبَتَ معنا بإستمرار بدون إنقطاع إلا بياتريس داغر أرملة المرحوم إميل سعادة.
كُنَا مستمرُون. الأب الياس وجبرائيل سعادة واسبيرو إهتمُوا بالفلسفة. جورج خضر إهتمَ بالفيلسوف الروسي المقيم في باريس نيقولاي بردييف والذي تأثَر به ايضاً الفرنسي عمانوئيل مونييه فحصَلنا على ما حصَلنا من كُتُبِهِما، ثم نظَمنا مكتبةً ودَعينا الناس الى القراءة. ولكن لم يكن هناك من إستعداداتٍ كبيرة للغوص في القراءات، لا اللاهوتيَة ولا الفلسفيَة. ولكن حبرائيل سعادة أخذَ يهتمُ بالآثار وبالتاريخ بينما إنصرَفَ الأب الياس واسبيرو الى الدينيَات والفلسفة. أثَرَ فينا كثيراً من اللاهوتيِين كنيقولاي لوسكي، وسيرج بولكاكوف، وفلاديمير غيتيه.
في العام 1946 أنشأَ الأب الياس موضوعاً كنَسِياً متأثِراً بنيقولاي بردييف عُرِضَ عليَ في العام 1965 بنشرِه. طالَعتُه وأوقفتُ نشرُه لأنه متأثِر جداً ببردييف وكُنَا نحن قد تطوَرنا كثيراً وقتَها، وإبتعَدنا عن بردييف. ولكن إستفَدنا من بردييف ونظرتهُ للإنسان كشخص، وهذا الشيء هو مهمُ جداً.
في العام 1945 أخَذَ ينتمي الينا أُناسٌ أكبر مِنَا سِنَاً بعشرة وعشرين سنة. هؤلاء هم من مواليد العهد العثماني، فإذن عقلُهم ليس مثلُ عقلِنا. فيهم إيمان وفيهم إخلاص، ولكن عودُ الشخصِ هو شديدٌ جداً ويابسٌ وليس فيهم إستعداد ليكونوا عجيناً ليِناً ليبُث الأب الياس فيه الروحانيَة التي نحنُ نتبنَاها.
نحن ظهَرنا كقضيَة روحيَة كنَسيَة لا طائفيَة. مواليد العهد العثماني هم طائفيُون. أما الأب الياس فقد زَرَعَ في أذهانِنا شيئاً إسمُهُ الكنيسة. إمتلأنا بالإيمان، وبالكنيسة، وبالأرثوذكسيَة فصارت الكنيسة موضوع غرامِنا. وصِرنا مُتَيَمين بالكنيسة والمهم لدينا هو الكنيسة، الكنيسة، الكنيسة. في الليل والنهار، وفي كلِ زمانٍ ومكان الإلحاح على الكنيسة والكنيسة شَرِكة. لا فردِيَات ولا طائفيَات ولا أنانيَات ولا زعامات ولا وجاهات ولا تكتُلات. الكنيسة هي شَرِكة سماويَة على الأرض لنكونَ ملائكةً على الأرض.
هؤلاء دَخلوا الحَركَة فإستغرَبتُ لما رأيتهم في 1 نيسان 1945 في طرابلس في حضور إجتماع عام للحرَكة بحضور البطريرك الكسندروس الطحان والمطران ابيفانيوس زائد. كانا يتنافسان على كسبِ ودِنا ونحن كنَا في غياهب التاريخ لا ندري ماذا يجري في الخفاء.
في خريف العام 1945 جرى إنتخاب فإذا بأحد مواليد العهد العثماني قام بإتصالتٍ سِريَة ليتمَ إنتِخابُهُ رئيساً للمركز، ولكن لم يحمل ثلثيِ الأصوات فتقرَر إعادة الإنتخاب بعدَ ذلك. في 13 تشرين الثاني قال لي البير وإدوار لحام “إستعجل، المسألة في اللاذقية قيامٌ وقعود”. انا من اللاذقية وانا صديقٌ للجميع فعمِلتُ كَمَكُوك بين كلِ الجهات فتَمَ الإتفاق على ترشيح جبرائيل سعادة رئيساً للمركز وهو كان في مصر يزور الآثار المصريَة. تمَ ذلك وعيَنت الأمانة العامة رئيساً للمركز بالوكالة ريثما جبرائيل يعود من مصر. فإغتنمَ الأب الياس المناسبة ليُشعِل الإيمان في القلوب فتكاثَرت الإجتماعات وعقَدنا إجتماعاً عاماً في 17 كانون الأول في العام 1945 في كنيسة القديس ميخائيل التابعة للمطران ابيفانيوس، فكان إجتماعاً هائلاً وكان الناسُ فيهِ خُطَباءً. من ميزةِ ذلك الزمان أننا علَمنا الناس الخطابَ. تحمَسَ الناسُ كثيراً وفي هذه الثورة من الحماس، أخذَت بعضُ الفتيات تُفَكِر بالرهبَنَة فعرضوا الأمر على مرسال مرقص. إنتهى الأمر في 4 تموز 1953 بسَفَر الأُم سلام والمرحومة الأُم أنطونيلا والأخت رجاء الى لبنان برفقة المبتدىء جورج خضر وكانت قد سبَقتهما الأخت جوليا صافتلي فتجمَعَ بعض البنات في فرن الشباك بإهتمام بولس سعيد رَحِمَه الله والمرحوم جورج ناصيف والبير لحام وجورج خضر. ثم أُدخِلنَ ما جرجيوس الحرف أقَمنَ فيه حتى 9 آذار 1956 إذ تمَ سحبُهُنَ الى دير مار يعقوب-دده بِسَعي الأخ الحبيب كوستي بندلي مع حبيبنا الغالي جورج شلهوب المحظوظ لدى مطران طرابلس آنذاك ثيودوثيوس ابو رجيلي.
عاد جبرائيل سعادة من مصر وألَف مجلس مركز وأدخلَ فيهِ بعض القدامى وإنزوى الياس مرقص واسبيرو والبعض الآخرين في العمل الثقافي والتربوي واللاهوتي، إنما أخَذَ الإنزعاج يدِبُ في بعض الصفوف لأن الأمور تتطوَر نحو المظاهر. فمسيرةُ الأب الياس هي مسيرةٌ روحانيَة لا مسيرةٌ طائفيَة جماهريَة. أخذَ البعض ينسحبون.
عاتبتُ المرحوم جورج صالح وقلتُ لهُ لماذا تركت الحركة؟ فقال لم تعد هذه الحركة، فهي تحوَلت الى مظاهر شعبيَة.
في العام 1946 أخذَ هؤلاء الكِبار يَدعون الى بناء ثانوية أورثوذكسيَة تجمع شِتات الأولاد في مدرسة ذات مستوى رفيع في التعليم والتربية. إنبرم للموضوع جبرائيل سعادة فألقى خطاباً في كنيسة مار جرجس والشعبُ مُكتظٌ برُمَتِه. عارَضه المطران لأنه إستغربَ هذا المشروع الضخم وهو فعلاً مشروعاً ضخماً. وأخيراً أنجزَ جبرائيل المشروع بالرغم من كل الصعوبات وإبتدأت المدرسة بالتدريس في خريف 1947.
فوجىءَ جبرائيل سعادة بتدَنِي أسعار المدرسة المقدَسة اللاتينية- الفرير سابقاً، والمدرسة الأميركيَة. فخسِرَت المدرسة في تلك السنة عشرة آلاف ليرة سورية وهي قيمةٌ باهظة بالنسبة لقيمتِها الشرائيَة في ذلك الوقت. لم ينتبه جبرائيل الى ذلك إلا في مناسبةٍ بعيدة، فعَرِفَ فأعلَمَني أن المسألة هي إتفاقاً بين الأرض المقدَسة والمدرسة الأميركانيَة لضرب المدرسة الأرثوذكسيَة بالإفلاس. لكنَها لم تُفلِس، فتابَعَت سَيرَها. تألَف عُمدة المدرسة برئاسة جبرائيل سعادة وعُضويَة مارسيل مرقص، حبيب الياس وريمون سعادة. كان جبرائيل سعادة يمرُ في حيرةٍ وهو لا يدري الحروب. ولكن في إجتماعِنا في السبعينات أوضَحتُ لهُ من أينَ كانت تنطلقُ النيران علينا، بنسبةٍ ما لم أكشُف له كلَ شيء.
إستمرَت الحركة ولكن المدرسة إستنفَدَت الجهود بقسوةٍ كبيرة. صِرنا نعقد فيها إجتماعات الفِرَق ولكن المدرسة في ذلك الزمان وفي تلك الظروف الإقتصاديَة تستهلِك طاقات البشر.
الآن، أعودُ الى مسيرتِنا المتعثِرة. فوجئنا في العام 1944 بتغلغل بروتستانتي، تقف وراءه بريطانيا حتماً في الكنيسة الأرثوذكسيَة في اللاذقية فتصدَينا له بنجاح. فوجِئنا بهجومٍ آخر يقومُ به الآباء البيض وراهبات الكرميليت وكانت مدرسة الفرير قد أغلَقت أبوابَها وهاجرَ الفريرات الى لبنان لأن مديرَها كان لبنانياً سياسياً، فإنتهينا من محاربة مدرسة الفرير في ذلك الحين. حينئذٍ تَفَضَينا للمعركة بقوَة وجَبَروت.
في هاتَين المناسبتَين إتَصلنا بالمغَرَب بهم وأقنعناهم بالإيمان الأرثوذكسي وجذبناهم وسحبناهم نهائيَاً.
تاريخياً لم تسطتع الكثلَكَة والبروتستانتيَة أن تغزو كنيسة اللاذقية. ولذلك قطعنا الطريقَ عليهم ونجحنا نجاحاً باهراً. إنبرى اللُغوي الكبير إدوار مرقص للمعركة، فأنشاَ عُجالَةً في الموضوع في لغتِه العربية الرائعة.
في بيروت، كان التحامل على جورج خضر قد بلَغَ أَشدَهُ بحجَة أنه روحاني وأن بعضُهم إداري وطالبوا بإنشاء مكتبة للثقافة فإنتهى الأمر الى إنتخاب جورج خضر أميناً عاماً في خريف 1945 . أُهمل بنسبةٍ كبيرة وشُنَت عليه في تموز 1947 حرباً كلاميَة من الإداريِين اللامعين الذين لم يستطيعوا أن يستمرُوا، فعادَ الأمرُ الى البير وإدوار لحَام بينما كان جورج خضر قد سافر الى باريس في العام 1947 ليدرِسَ اللاهوت في معهد القديس سرجيوس الروسي فعادَ في آذار 1952.
في هذه الأثناء، إضطربَت الأمور بعض الشيء ولكن في اللاذقية تابَعنا المسيرة. في العام 1940- 1949 بلغَ النشاط الروحي طبقةً ممتازة. إستمرَ العملُ بنشاط. علَمنا الناس الركوع والسجود والصلوات الطويلة وزيارة الكنائس وكنا نُقيم كل يوم جمعة قداساً في كنيسة القديس ميخائيل لدى كاهِنها المرحوم الخوري اسبيريدون بيطار.
هذا أشعَرَ المطران تريفون بالخطر فقال لأحد كهنتِه في العام 1948 وربما في العام 1949 بأنه يخشى خطَراً قد يندلع منَا. نحن لم نكُن في هذا الوارد ابداً.
حتى البطريرك الكسندروس سألَني مرَةً ” ماذا تُريدونَ أنتم؟ هل تفكِرون في إنقلاب؟” إستغربتُ الأمر وقلتُ لهُ نحنُ جماعةٌ نصَلِي ونُعلِم الناس الصلوات وقراءة الإنجيل فقط. كنتُ في 23 نيسان 1945 قد عزَمتُ على دراسة اللاهوت ولكن اضَعتُ العام 1947 لأن البطريرك الكسندروس الطحان كان يُدارينا ولكنَه لا يرغبُ فينا إكليريكيِين. فإضطرَرتُ مُكرَهاً الى الإنخراط في سِلك المحاماة وذلك في 2 تشرين الأول 1947 وإستأذنتُ الحرَكَة لأبقى ستة أشهر منصرِفاً الى الدراسات الحقوقيَة، ثم عُدتُ الى الحَرَكة. تابَعنا المسيرة بنشاطٍ إلا أن المدرسة كانت تستهلك كثيراً من الطاقات.
تغلغلنا في الشعب وأخذَ هذا الشعب يكبر جداً فكانت الهرطقات تنهال علينا من هنا وهناك بسبب مَيل الشعب لنا. ولكن في العام 1952 خطَرَ للمرحوم وديع سعادة أن يَطلُبَ من الجيش منعَ الشباب م إستعمال المفرقعات في عيد الفصح لأنهم يُزعجوننا، واللاذقيُن كانوا يتهافتون على الكنيسة في عيد الفصح. إنزعجَ المفرقعون وساروا في مظاهرةٍ من كنيسة القديس جاورجيوس، الى الشارع الذي يؤدِي الى بيت وديع سعادة. خرج جبرائيل من الشرفة لينظُر فشاهدَ تلميذاً يدرس في المدرسة على حسابِه يصرخ ” ليسقط غابي سعادة” فإنزعجَ جداً وهو حسَاس، والحسَاسيَة دفَعَتهُ الى التشاؤم والى قرارٍ بالإنسحاب. فإستقالَ في 16 تشرين الأول من رئاسة العُمدة ومن رئاسة الحَرَكة. كان موقفُ مرسال مرقص إيجابياً لذلك، وعيَنَ شفيق منصور اي المطران يوحنا منصور الآن رئيساً للمركز بالوكالة.
إنزعجَ جبرائيل من هذا الموقف السريع وسعى الى تلطيف الأجواء والتوسُل اليه للعودة وهو إبنٌ وحيدٌ مُدلَل. في الحقيقة كان الأب الياس منزعجاً ايضاً من تصرُفات المدرسة. ففي عيد تدشين المدرسة في 31 ايار من كلِ عام، يذهبُ الطلاب والأساتذة والكشاف ليُعيِدوا بشارة صالح في عيد البشارة، فأخذَت المظاهر الجماهريَة تلعب دوراً ضدَهُ.
حاولتُ مرَةً تلطيف الجو مع جبرائيل سعادة. في العام 1953، تمَ إنتخاب شفيق منصور ايضاً رئيساً للمركز. فكانت الفترة من العام 1952 حتى ذهاب شفيق الى دير الحرف في العام 1957 فترة هدوء تخلَصنا فيها من المظاهر. بقيَ القُدماء منزعجين لأنهم كانوا يُحبُون شيئاً من المظاهر ولكن بقينا نحن نسير رُويدَ، بقيَت الإجتماعات تنعقِد ولكن الوتيرة إنخفضَت بنسبةٍ لا بأسَ بها.
وبقيَ مواليد العهد العثماني يجتمعون في الفرقة. تأثَروا دينياً ولكن التربة ليست تربة العهد الجديد، التربة هي يابسة، ليسَ فيها من اللين ما يسمح بزرع حبة الخردل.
سافرتُ لدراسة اللاهوت لأني لاحظتُ في الأربعينات بالحاجة الماسَة الى الكُتُب الدينيَة وبقيتُ مصِراً على هذا الهدف حتى النهاية.
رجِعتُ وسافرتُ وقبل السفر مرَرتُ على دير الحرف لأُودِع الأب الياس في ايلول 1958 فكان هناك هو والأب أنطونيوس منصور وحبيب فهدي وحنا منصور وايليا يعقوب. ثم أخذَ ينضمُ اليهِم بعضُ الناس. أمَا اللاذقية فاخذَت تُتابع مسيرَتَها إلا أن اللاذقيِين الأرثوذكس موصوفون بعيبٍ كبيرٍ وهو الإنشقاق ويا للأسف الشديد. فعادوا ينشقُون سياسياً وحَرَكياً وطائفياً ولكن كانت الحركة قد بَلَغت شأناً مهماً. ع
عدتُ الى بيروت في 8 كانون الثاني 1962 فوجدتُ الأخ البير لحَام في حالةٍ لا أدري كيف أصِفُها، يشعر بخطرٍ كبيرٍ يُداهم الكنيسة والأبواب شبه مُغلَقة. ليس في الواجهة إلا البطريرك ثيودوثيوس ومطران حلب الياس معوَض يؤَيِدُهما في دمشق بقوة المرحوم جورج نقولا خوري.
في بيروت وطرابلس، كانت الحالة لا تدعو الى الإرتياح ابداً. لا أُريد أن أجعل الكتاب ثقيلاً بكلِ ما أَعرِفُهُ عن أبرشية جبل لبنان، أبرشية بيروت، أبرشية الجنوب وأبرشية زحلة، دمشق، حوران… الأوضاع رافسةٌ جداً.
في 12 كانون الأول 1962، أحسَستُ بأن الأمور هي هائلة وبأن الأرض مزروعة بالألغام. إرتميت الى البير في هذه المعركة وإنتهينا فيما بعد الى تبنِي البطريرك العظيم ثيودوثيوس ابو رجيلي وتبنِي رؤيَتِه للمستقبل. إنتمى الينا المرحوم موريس حداد وسواه ووقف المجلس المِلِي العام الى جانب البطريرك، وفي النهاية في العام 1966 وقفَت اللاذقية بقوةٍ جبَارة الى جانب البطريرك ثيودوثيوس فإهتزَ الكرسي الأنطاكي في الوطن والمهاجر وكان خلاصٌ للبطريرك ثيودوثيوس.
هكذا إستمرَت الأمور حتى ماتَ البطريرك ثيودوثيوس قريرَ العين. حقَق في 7 تشرين الأول 1969 نصراً كبيراً بإنتخاب كوستا — مطراناً لبغداد والكويت وإنتخاب المغبوط المطران الكسي مطراناً لحمص. وهكذا مهَدَ السبيل للبطريرك الياس فإنتُخِبَ في 25 ايلول 1980. هذه العمليَات إنتهَت الى يقظةٍ أورثوذكسيَةٍ.
أخذَ التيَار الرهباني يلمع. لم ينتبه كثيرون الى دير الحرف. في 5 كانون الأول 1958 تمَت رِسامةُ مرسال راهباً بإسم الياس وإنضمَ الى دير الحرف راهبٌ رومانيٌ مُثَقَف هو المغبوط اندريه سكريما المتمرِس في الشؤون الرهبنانيَة في بلدِه العظيم رومانيا، فإنتعَشَت الأمور . إنصرَفَ يُلقي عليهم الدروس ويؤلِف لهم الكُتُب. الأب الياس خُلاصة من الرزانة والرصانة والحكمة والهدوء. ليس رجل المغامرات والمخاطرات. خُطُواتُه محسوبة بعِشر الملِيميتر. بصيرتُهُ نافذة، يرى الأمور بوعي ودقَة، حِساباته للأُمور دقيقةٌ ايضاً.
ظهرَ تيارٌ يُريدُ الرهبنة رهبنةً تبشيريَة وهي لم تؤسس بعد. ولكن شيئاً فشيئاً أخذَ الدير يترسَخ رهبانياً. الأب الياس نظامي، الصلوات هي مقدَسة والنظام فوق كلِ شيءٍ. حضور الصلوات إِجباري. النظام في الدير، نظامٌ دقيقٌ جداً، كلٌ في عملِه بدِقَة. هو ليسَ بقاسٍ، هو لطيفٌ ولكنَه نظاميٌ. ليس من السهل أن يشتهر الدير. الأوضاع في أبرشيات لبنان لا تدعو الى الإرتياح.
حلَلتُ في بيروت في 1 شباط 1968 صديقي المغبوط بولس سعيد المحب للتبشير والمحِب للتعليم. عَرَضَ عليَ ان أنزل الى برج حمُود لأعِظَ بعض السوريِين المقيمينَ هناك. وافقتُ وكان نظري آنذاك حاداً جداً. دخلتُ الغرفة فإذا بالكاهن أعرِفُه جيداً .كان كناساً في مدرسة الفرير في اللاذقية لما كنتُ انا تلميذاً فيها. جلَسَ بإحترامٍ، بأدب. إحترَمتُهُ بالطبع ولكني كنتُ أعرفهُ كناساً. هذه كانت الصورة عن أبرشية جبل لبنان. زِرتُها مِراراً. ولا أُريد أن أذكر رأيي في بتغرين في العام 1969.
في العام 1974 ذهبتُ الى دير كَفتون فإذا هو خِربةٌ من الخِرَب.
ذهبَ الأب الياس الى لبنان اذن. بقيَ أن يُزهِرَ لبنان. للحقيقة وللتاريخ، يجب أن نعترف أن إنتخاب البطربرك الياس معوَض كان فاتحةَ خيرٍ كبيرٍ على الكرسي الأنطاكي. أخذَ الناسُ يؤُمُون الى الكنائس في كلِ مكان. لا أُريد أن أذكر شيئاً عن إهمال الأرثوذكس. اين تُريدون؟ حماه، حمص، دمشق، بيروت، زحلة، جنوب لبنان. كان الأرثوذكس قد تخلُوا عن كنائسِهم.
قال لي رجلٌ صدِيق رحِمَهُ الله مرةً في حمص أنَه كان يستحي أن ينزِل الى الكنيسة لأن رفاقَه كانوا يُوَبِخونَه كلَما ذهبَ اليها. البطريرك الياس أعاد الناسُ الى الكنائس شيئاً فشيئاً فأخذَت الكنائس تزدحم كما نراها اليوم. يجب أن نعترف بالحقيقة من دون إنحياز. أخذَ الأب الياس ينشَط شيئاً فشيئاً فاخذَ بعض الناس يتردَدون على الدير. مِن أخلَصِهم المرحوم سيمون ابليا خوري وأخوه المرحوم جوزيف وصديقَهما الذي صار كاهناً فيما بعد ريمون باشا أي قسطنطين باشا. هؤلاء كانوا من أخلص الخُلَص للأب الياس وللدير.
أخذَ الدير ينتشر شيئاً فشيئاً. تأسيس معهد اللاهوت في البلمند في العام 1970-1971 أنعشَ الآمال بعضَ الشيء فأخذَ طلَابُهُ يسيرون في خطٍ كهنوتيٍ يُفرِح القلب. وأخذَ بعضُ الممتازين ينتمونَ اليهِ. كانت الكورة مُهمَلة فأخذَ الدير يُنعِش الأمور شيئاً فشيئاً. أصرَ البطريرك على تعيين الأب يوحنا منصور رئيساً للدير في العام 1972 فحلَ في الدير.
كان في العام 1962 – 1966 في دير بكفتين، تعرَف هناك على الأب القدِيس المغبوط إسحق عطا الله. إسحق عطا الله سارَ في الأمور سيراً جيداً فسافرَ الى تسالونيك ودرَسَ اللاهوت وزار جبل آثوس مراراً عديدة.
أخذَت تتبلوَر الأفكار الرهبانية عند زوَار الدير شيئاً فشيئاً.
أما اللاذقية في العام 1966- 1970، فهي قد رأَت نشاطاً باهراً جداً بعناية الأب يوحنا منصور ورئيسة الحَرَكة فيكتوريا جبور التي اتَت خليفةً للأُخت العزيزة بياتريس سعادة. تحوَلت اللاذقية الى بركانٍ من الإيمان والنشاط الروحي الباهر.
في لبنان أخذَ التيَار الرهباني والكهنوتي يتحرَك، وأخذَ ديرُ الحرف يلمع. الأب الياس خرجَ عن الوحدة فإنطلَقَ يزور المدن والبلمند فأخذَ الناسُ يلتفُونَ حولَهُ وأخذَ الأبناء الروحيُون يتكاثرون هنا وهناك، وإمتدَ فيما بعد الى الأردن فتكاثر الأبناء الروحيُون في الوطن والمهاجر حتى صاروا آلافاً.
ماذا أَحبَ زوَار الدير والرهبان بالأب الياس مرقص؟ أَحبُوا في الأب الياس مرقص الهدوء. هو رجلٌ هادىءٌ، متواضعٌ، وديعٌ. يُحبُ من كل القلبِ بدون أن يفيضَ ذلك خارجياً. تقترب اليهِ فتشعُر أن قلبَه ينبُض حباً للمؤمنين.
هو راهبُ الكنيسة من الطراز الأوَل بصراحة بدون مُبالغة. هو عملياً البطريرك الفعلي للكرسي الأنطاكي. ما رَغِبَ في المناصب. ما رَغِبَ في المجد العالمي، تحاشاه منذ البداية حتى نهاية العمر ولكنَهُ كان رجل الكرسي الأنطاكي الممتاز. قلبُهُ نارٌ ولكن مغطاة بجليدِ الهدوء.
أحبَهُ الناسُ كثيراً وأجَلَهُ الناسُ كثيراً وإحترمَهُ الناسُ كثيراً. لأنه بالحقيقة وبالفعل هو محتَرَم.
ما إهتمَمتُ بإستجوابِه لأعرِفَ تاريخَ حياتِه ولأعرفَ ما يجولُ في صدرِه ولأعرف ما هي حقيقَتُهُ لأنهُ يكرهُ ذلك.
كنتُ أُحبُهُ كثيراً ولكن كنتُ أُراعي جداً حالتهُ الروحيَة والنفسيَة. لا يُحِب بما نسمِيه باللغة العامية “البهوَرات” فكانت علاقتي به خالية من البهوَرات، خالية من كل المظاهر. هو يعرِف أني مُخلِص للكنيسة وأني لا أكذِب فيكتفي بذلك وانا أكتفي بما في قلبِهِ من حبٍ لله وحبٍ للكنيسة. ما من مرَةٍ تعانقنا بحماسٍ ولكن كلُ واحدٍ منَا كان يثِقُ بالآخر ويُحِب الآخر وبقيَ هذا الحب حتى اليوم الأخير وهو باقٍ الى الأبد.
1- هو أعلَمَني أنه أقامَ دعوى لتكبيرِ عمرِه سنةً ليُقبَلَ في نقابة المحامين في اللاذقية.
2- في أواخر الثمانينات كنتُ مع المرحوم جبرائيل سعادة فذَكَرَ لي فُلاناً فقلتُ له: “أما كنتَ تشعُر انتَ وأبوك أنكما كنتما محاربَين؟” فقال: “كنتُ أشعر بذلك”. أعطيتُهُ بعضُ الأدِلَة ولن أذكر كلَ شيء كيف حورِبَ أبوه في العام 1943 وكيف حورِبَ هو. فإستيقظَ الرجل وقال: “هكذا كان يُحارَب أبي وأُحارَب انا؟” فقلتُ له نعم نعم. في العام 1964 لفتُ نظَرَك. إندسَ عليكم وهو يُحاربُكم وانتَ لا تدري، كانت الحربُ داخليَة وخارجيَة وليست فقط ضمن الطائفة