اسبيرو جبور
الأعياد السيدية (مواعظ ومقالات)
الفصل الثالث : عيدُ البِشارة
عيدُ البِشارة هو عيدُ تبشير سيِّدَتنا والدة الاله بالحَبَل بالربِّ يسوع المسيح. هذا الحَبَل هو الحَدَث الأعظم منذ إنشاءِ العالم وحتى نهاية العالَم لأن ابن الله يصير ابن البتول. في هذا اليوم العظيم أتى جبرائيل من السماء ليُبَشِّر العذراء مريم بالحَبَل بابن الله الرب يسوع المسيح. حيّاها فقال: “السلام عليكِ ايتها المنعَمُ عليها من الله، الربُّ معكِ” فاستغرَبت هذا السلام. وبشَّرها بالحَبَل، فاستغرَبت كيف تحبَل وهي لم تتزوَّج ولن تتزوج وإن كانت مخطوبة ليوسف فخُطبتها هي صوَرية لا تؤدي الى زواجٍ فعليّ بل الى زواجٍ اسميّ. فهي قد نذَرت البتولية. أعلَمَها الملاك أن الروح القدُس سيحلُّ عليها وان قوة العليّ ستظللها وأن مولودها هو ابن الله وابن العليّ، هو قدوس الله، هو الذي سيجلسُ على كرسيّ داود وسيكون ملِكاً، وسيملِكُ على بيتِ يعقوب الى الأبد ولن يكون لِمُلكهِ نهايةٌ لأنه مَلِكٌ أبديٌّ لا بدايةَ ولا نهايةَ لِمُلكِه، انما مملكته كما قال لبيلاطس ليسَت من هذا العالم. إنها مملكةٌ روحية لا أرضية ولا جسَدية. فقبِلَت مريم هذا العَرض الالهي وقالت: فليَكن لي بحَسَب قولِك. عند هذا القول تمَّ التجسُّد الالهي. كيف؟
الروح القدس الذي حلَّ عليها طهَّرها وقدَّسها كما يقول القدّيسان غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الدمشقي. طهَّرها، أي ليس بعد فيها ميلٌ الى الخطيئة، لتُعطيَ لربِّنا يسوع المسيح جسَداً لا يميلُ الى الخطيئة، وقدَّسها فجعَلها قدّوسةً. صَنع الروح القدس من أحشائها جسَداً ضمَّ اليه روحاً بشرية خَلَقَها هو. هذه الطبيعة البشرية من روحٍ وجسَد اتَّحدَ بها الأقنوم الثاني من الثالوث القدّوس (أي الرب يسوع المسيح) فضَمَّ هذه الطبيعة البشرية الى أُقنومه الالهي فصارت جزءاً منه بدون أن تصيرَ إلهاً بالطبيعة وبدون أن يصيرَ يسوعُ الاله انساناً بالطبيعة، اي، بَقيَ الجوهر الالهي جوهراً الهياً وبقيَت الطبيعة البشرية طبيعةً بشرية، إنما اتَّحدَتا في شخص يسوع المسيح، أي أقنومه، إتحاداً اقنومياً لا يفهمَه الملائكة ولا يفهمَه البشر.
لم يمتزِج اللاهوت بالناسوت، ولم يختلط اللاهوت بالناسوت، ولم يتبدَّل اللاهوت الى ناسوت ولا الناسوت الى لاهوت، إنما تألَّهت الطبيعة البشرية بحلول الأنوار الالهية فيها أي تألَّهت بالنعمة الالهية. فلا يمكن أن يتمّ اتحاد بين الطبيعتَين البشرية والالهية دون أن تستفيد الطبيعة البشرية شيئاً من هذا الإتحاد، وإلا لكان الإتحاد ظاهرياً خارجياً. إنما هو إتحاد متينٌ جداً فيه شخص واحد وهو المسيح. في الرسالة الى أفسس الفصل 4 نقول: “ربٌّ واحدٌ يسوع المسيح”. فهو واحِدٌ وليس اثنين إنما هو شخصٌ واحدٌ في طبيعَتَين: الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية.
نقَلَ بالاماس عن يوحنا الدمشقي الذي قال “تجسَّدَت الالوهة في شخصِ الربِّ يسوع”. كيف جَمَعَ الطبيعَتين بدون أن يتجسَّد الآب والروح القدس؟ هذا هو السرّ الالهي العظيم الذي لا أفهَمهُ لا انا ولا الملاك. هذا الاتحاد الالهي- البشري هو أعظم حدث جرى في تاريخ البشرية. الاله يصير انساناً ويمشي بين الناس كإنسان. الطبيعتان إتَّحدَتا أقنومياً كما نقول، أي إتَّحدَتا في أُقنوم الابنِ (كلمة “أقنوم” وكلمة “شخص مترادفتان”، المعنى نفسه) فصارت الطبيعة البشرية موجودة في أُقنوم الابن. كيف؟ الله يعلَم. وهكذا سَمَت الطبيعة البشرية الى مستوى هو فوق البشر والملائكة وارتقينا نحن بهذا السبب الى مستوى فوق الملائكة. فالملائكة كما تقول الرسالة الى العبرانيّين أرواحٌ مُرسَلَةٌ لِخِدمة الذين يرِثونَ الخلاص. الملائكة خدَمٌ لنا نحن الذينَ نسعى الى الخلاص بربِّنا يسوع المسيح.
هاتان الطبيعتان تامَّتان، فيسوع هو إلهٌ تام وإنسانٌ تام، شخصٌ واحدٌ في طبيعَتين تامَّتَين. لكلِّ طبيعةٍ منهما فِعلُها البشريّ او الالهي. ليسوع أقنوم واحد وطبيعَتان بشرية والهية، ومشيئتان وفِعلان. بتجسُّدِه، أخذَ طبيعَتنا الساقطة لا طبيعةَ آدم في الفردَوس كما يتوهَّم البعض، أخذَ طبيعّتنا الساقطة ولكن بدون مَيلٍ الى الخطيئة. قال بولس فى العبرانيين 4 :15 “صارَ مِثلَنا في كلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة”. وقال في الفصل 3 “لكي يكون شبيهاً في إخوته في كلِّ شيء”. وفي رومية 3 شيٌ مثل ذلك وفي فيليبي الفصل الثاني: “أخلى ذاتَه صائراً في شِبه الناس”.
يسوع له المجد أخذ طبيعتنا بتمامها ما عدا الخطيئة. ولذلك، فتطهير العذراء وتقديس العذراء أدّى الى طبيعةٍ أقرضَت يسوع جسَداً خالياً من الميل الى الخطيئة. جسد مريم هذا صارَ شبيهاً بجسَد يسوع فكان مصير العذراء كمصير يسوع. ماتت وفي اليوم الثالث أقامَها الرب يسوع وأصعدَها الى السماء. أخذَ يسوع طبيعتنا برُمَّتِها فهي طبيعةٌ قابلةٌ للموت. رَقدَ جسدُه في القبر وذَهبت روحُه الى الجحيم تُبشِّر الناس فيه. بشَّرَت ابراهيم واسحق ويعقوب وداود ويوحنا المعمدان وغيرهم. من آمن منهم به صَعِدَ معهُ في اليوم الثالث الى الفِردوس.
صارت طبيعة مريم العذراء مثل طبيعته له المجد. فإذن، هي طبيعة قابلة للموت. لو كانت مثل طبيعة آدم في الفِردَوس لما كانت قابلة للموت. المزمور 16 يقول: “لا تترك نفسي في الجحيم”. قام يسوع في اليوم الثالث لأن لاهوتَه المتَّحد بجسده في القبر لا يسمح لهذا الجسَد ان يبقى في القبر، فأقامَه في اليوم الثالث. الجسد قابل للآلام وللجوع وللعطش. بكى المسيح على العازر. إهتزَّ بالروح أحياناً. لما أتى بئر السامرة ارتوى على البئر من التَعب. ذاقَ آلاماً مُرَّة في الجثمانية حتى صار عَرَقه يتساقط كقَطرات دمٍ. ذاق على الصليب آلاماً مبرِّحة، جُلِدَ، ثُقِبَت رِجلاه ويداه بالمسامير وطُعِن جنبه بحربَةٍ ووضِعَ إكليلُ شوكٍ على رأسه. فاذن، طبيعة يسوع البشرية هي مشابهة لنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة أي طبيعتنا الساقطة.
غريغوريوس اللاهوتي العظيم، وأخذ عنه كيريلّلس الإسكندري: “ما لم يأخُذهُ يسوع لم يُشفَ، لم يَخلُص”. أي أخذ طبيعتنا برُمَّتِها ليشفيها برُمَّتِها. أخذ جسدَنا الساقط ليشفي جسدَنا الساقط. أخذ روحَنا الساقطة ليشفي روحَنا الساقطة. أخذَ إرادتَنا الساقطة ليشفي إرادتنا الساقطة. فالخطيئة ليست من فِعل الجسد بل هي من فِعل الروح. فم الذهب يقول: “النفس هي التي تَخطأ”. يوحنا الدمشقي قال: “الإرادة البشرية هي التي تَخطأ”. كيريللس الأورشليمي قال: “الجسد بدون الروح لا يخطأ”.
فاذن، النفس هي التي تخطأ والجسد هو الأداة. أخذ يسوع طبيعتنا التامة. إرادَتهُ طاهرة، روحُه طاهرة، أهواؤه طاهرة، روحاً وجسداً طاهر، إنما قابل للآلام والموت والجوع ولانفصال روحِه من جسدِه. كان جسده في القبر وكانت روحه تُبَشِّر في الجحيم. قام في اليوم الثالث فعادت روحُه الى جسدِه وأقام جسَدَه من بين الأموات.
هذا هو التجسد الالهي. كيفَ تمّ؟ هل استغرَقَ زماناً؟ لا، في لحظة، في رمشةِ عين تمَّ كل ذلك. هل الله بِعاجز؟ هل الله بحاجة الى مراحل زمَنية؟ التجسُّد هو انضمام الطبيعة الالهية الى الطبيعة البشرية في شخص ربِّنا يسوع المسيح. لا يجوز أن نقول إن الطبيعتين وجِدَتا في لحظةٍ ثم اتحدتا في لحظةٍ أُخرى. وجود الطبيعة البشرية واتحادها بالطبيعة الالهية تمّا معاً. العمل واحد، ليس من عمَلَين أو من مرحلتَين، المرحلة واحدة. هذا العمل سجَدَت له الملائكة كما يقول الكتاب المقدَّس: “منذ دخولِه العالم فلتسجُدْ له ملائكتُه”. هذا العمل هو أعجوبة الأعاجيب. كل شيءٍ ممكن لدى الله ولكن لا الملائكة ولا البشر كانوا قادرين على التصوّر الالهي، أي أن يتَّحد الاله الغير المنظور، الغير المدرَك، الغير المفهوم، الغير الْمُدنى منه بطبيعةٍ بشرية محدودة في الزمان والمكان.
يسوع هو اله مثل أبيه وروحه القدوس، منذ الأزل والى الأبد. ولكنَّه في الزمن إتَّخذ من مريم العذراء طبيعةً بشرية ضمَّها الى طبيعَته الالهية. أقول ضمَّ، لأن فعل إتّحَدَ بالعربية لا نستطيع أن نشتقّ منه فعل أتحدَ. هذا العمل الالهي العظيم هو من المستحيل ولكن الله اقتحَم المستحيل لأنه يُحب الإنسان ليصير ابن الإنسان. فيه اتحد الله بالإنسان، فيه جاء الله الى الإنسان ليصيِّرَ الإنسان بنعمته الهاً بالنعمة. ايُّ شيءٍ أعظم، خلقُ آدم أم التجسُّد؟ التجسُّد أعظم من خلقِ آدم بما لا يُقاس. عاش آدم في فردوسٍ أرضيٍ، أما فردوسنا نحن فهو في يسوع المسيح، سنخلد معه في مجدٍ أبديٍ، سنتمتع بنوره الالهي المشِّع، سيُشرق نورُه في قلوبِنا فيسكن فينا ونسكن فيه، سيكون فينا وسنكون فيه، سنكون به نوجد ونتحرَّك كما قال بولس في خطابِه في أثينا “سيكون وجودنا بعد الآن فيه”. الاله أتى الى الإنسان والإنسان صعدَ الى الله. الاله ظهَرَ على الأرض وتردَّد بين الناس. أكلَ وشرِب معنا، نام معنا، قدَّس أرضنا في هذا المشرق في حلولِه فيها. عيد البشارة هو عيد التجسُّد الالهي، عيد الفرح المذهل، عيدُ لقاء السماء والأرض في عُرسٍ أبديٍ لا نهايةَ له. ستبقى الطبيعَتَين متَّحدتَين الى الأبد بدون انفكاك وستبقى هذه الطبيعة البشرية المشعَّة الآن في السماء مصدر الإشعاع في قلوبِن. هذه الطبيعة المشعَّة في السماء ستكون سعادَتُنا في اليوم الأخير، سنَعيش في أنوارِها البهيّة ونحصل على سعادةٍ أبدية لا نهايةَ لها ونعيش ونكون مع الرب كما قال بولس في رسالته الأولى الى تسالونيكي “الى الأبَد”.
ماذا اقول في تجَسُّدِكَ يا يسوع؟ لساني عاجزٌ ولكن انت أَنطِقني بما لا أستطيع أن أنطق به. لا أستطيع أن أنطق بكل شيء لأن لساني عاجزٌ ولكنَّك انت القادرُ على كلِّ شيء. تكلَّم الأدباءُ والشُعَراءُ كثيراً لإمتداحِ تجسُّدِك ولكننا جميعًا مقصِّرون، لأن تجسُّدَكَ أدهشَ الملائكة وسيُدهِشُ البشر الى ابد الآبدين لأنك يا يسوع بتجسُّدِك هذا، أحنَيت السماوات ونَزَلتَ الينا وقُمتَ بعملٍ غريبٍ مدهش خارج عن مفاهيم الملائكة والبشَر. فأيُّ حبٍّ يا يسوع لعبيدِك البشر الساقطين. ما كنا نستأهل هذه التضحية، هذا التنازل. لسنا جديرين بشيءٍ ولكنًّك يا يسوع قد شئتَ أن تَضُمَّنا اليك بهذه الطريقة الالهية. بقَدَر ما سقطتِنا كبيرة، بقدَر ما رحمَتُك أعظم بكثير. لم تكن من وسيلة لتغطية ضعفنا ولإنتشالنا من الجحيم، سوى تجسُّدِك العظيم. فما يليقُ بمجدك هو ان تَضمَّ طبيعتنا الساقطة اليك، هذا ما يليقُ بمجدِك، برحمتِك، بعظَمتِك. فقد صنَعتَ العجيبةَ المدهشة التي تليقُ بمجدِك. نحن لا نستحق هذا التنازل العظيم ولكنَّك انتَ شئتَ ذلك. ربي يسوع المسيح حلَلْتَ في حَشا البتول الطاهرة النقية . بالرسالة الى العبرانيين نحن بهذه المشيئة المقدسة اتيتَ يا يسوع لتَصنَع مشيئة الآب كذلك بالتقاء إرادة الآب وإرادة مريم. بل الآب القدوس أهلَّنا نحن البشر أجمعين بأن نتقدَّمَ اليكَ مُطيعين كطاعة مريم العذراء، بين إرادتِك وإرادة البشَر ليَعبِدوكَ جميعاً كما عبَدَتكَ مريم، ليطيعوكَ كما أطاعتكَ مريم العذراء، ليَخضَعوا لكَ كما خضَعَت لكَ مريم العذراء. عيدُ البشارة هو عيدُ الدَهَش، عيدُ الرعدةِ والخوف، عيدُ الرُّعب الالهي. فيا أيها الآب القدّوس ويا ايها الإبن القدّوس، ويا ايها الروح القدس القدّوس، يا مَن ارتضيتَ بأن تكون مريم العذراء أمّاً للإبن الوحيد للربّ يسوع، أن ترتضي أن تكون البشرية جمعاء مقَرّاً لك، لِمَجدِك ولنورِكَ. ربَّنا إرحَمنا، ربَّنا أعطِنا أن نسجُدَ من كلِّ قلبِنا. يا للسرِّ العظيم الرائع، يا للسرِّ الرهيب. الإبنُ لاهوتياً مولوداً من جوهرِ الله. ولادة الإبن من الآب هي أبدية وليست زمَنية، لا بداية لها ولا نهاية أي سرمَدية. الفرق كبيرٌ بين الولادة من الآب قبل الدهور، قبل الزمن منذ الأزَل، والولادة من العذراء في الزمن. ولكن بما أن شخص يسوع هو واحد وهو ربٌّ واحد كما تقول الرسالة الى افسس. مريم العذراء هي أُم الله بما أن شخص يسوع المسيح هو واحد. فانا مؤلَفٌ من جوهَرين الروح والجسَد، ولكن شخصي واحد، أَنسُب كل أموري الجسدية والروحية الى شخصٍ واحد الى ال انا. وكذلك العذراء مريم فنقول هي أم الله لأن شخص يسوع واحد مع العلم نؤمن أنها ولدَت الإنسان ولم تَلِد الاله. كل هذه العقيدة هي فوق المعقول البَشَري ولكن العهد القديم أرشدنا الى هذه الأمور، الأنبياء والآباء هم الذين مهَّدوا لنا السبيل الى إقتبال الايمان المسيحي وبأن يسوع هو الاله المتجسِّد من العذراء مريم له المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.