الحَبَل بيسوع
لما قالت مريم العذراء “ها أنذا أَمَةٌ للرب”، في تلك اللحظة تمَّ الحَبَل بيسوع المسيح وفيه جسدٌ وروحٌ بشريةٌ. فاذن، لم تلتصق الروح بالجسد يوم الميلاد كما يكتُب البعض بل التصقت الروح بالجسد يوم البشارة. أقول التصقت للردِّ على الذين يقولون إن التجسُّد تمَّ في عيد الميلاد. المسألة ليست التصاقاً، المسألة خَلق. الروح القدس خَلَقَ الجسد ليسوع وفي هذا الجسد وضَعَ روحاً بشريةً فما كان الجسدُ موجوداً قبلاً ولا الروح موجودةً قبلاً، ولِدا في أقل من رمشة عين واتحدا بالأقنوم الالهي في الرمشة العين نفسِها. فاذن في لحظة الميلاد، الطبيعة البشرية موجودة في تمامها روحاً وجسداً. وبناءً عليه يقول آباء الكنيسة الأرثوذكسية إن المرأة حين تحبَل يخلَقُ الله في لحظة الحَبَل شخصاً فيه روحٌ وجسدٌ، الجسد من الوالدَين والروح من الله.
الله يخلق الشخص والروحَ والجسدَ من الوالدَين ولكن كل هذا يتمُّ في رمشةِ عينٍ لا يعلَمُها الا الله. تركيبُ جسم الإنسان آيةٌ من الآيات فكم بالحَري حينما يكون تركيبُه معقداً كما هو، أي شخصٌ بشريٌ فيه روحٌ وجسدٌ. العذراء مريم اذن منذ تلك اللحظة في يوم البشارة، صار في بطنها الإنسان يسوع المسيح متحداً بالاله اتحاداً لا يعلمُه إلا الله. الطبيعةُ البشرية جزءٌ لا يتجزأ من شخص يسوع المسيح الى أبد الآبدين ودهر الداهرين. لا انفكاك أبداً بين الطبيعتَين. الأقنوم والشخص واحد، شخص يسوع واحد. ليس شخصاً للطبيعة البشرية الآن وللطبيعة الالهية بعد حين، هو على الدوام شخصٌ للطبيعتَين الموجودتَين في شخصِه الالهي. فاذن، هناك حبَل عادي ولكن بفِعل الروح القدس. ما دام بفعل الروح القدس فاذن هذا الحَبل هو حبَلٌ طاهر، مطهَّر، مقدَّس، إلهي. نَما يسوع في بطن العذراء تسعة أشهرٍ حتى حان ميلاده بعد تسعة أشهرٍ تامة. نما كما ننمو نحن ولكن طبعاً ليس فيه ميلٌ الى الخطيئة. العذراء حُبلى وهي تعلم أن ما في بطنِها متَّحدٌ بالأُلوهة. هل وَسعَ بطنها الألوهة؟ لا، حاشى. الأُلوهة لا تُحدّ ولا توصف. كيف؟ الله يعلم، ولكن نؤمن بأن الجنين الذي في بطنها متَّحدٌ بشخص ربِّنا يسوع المسيح وموجودٌ في شخص ربِّنا يسوع، متَّحداً بالطبيعة الالهية في شخص ربِّنا يسوع المسيح. الموسوع في الحشاء متَّحدٌ بمَن لا يسَعَهُ زمانٌ ومكان، خالق السماء والأرض وكل ما فيهما. هذا عجبُ الأعجاب كيف يسَع بطن العذراء مريم إتحاداً الهياً-بشرياً، إتحاد الاله بالجنين دون أن يكون محصوراً في زمانٍ ومكان. من لا يحصُره زمانٍ ومكان مُتَّحدٌ في جنين العذراء. الملائكة تسجد والبشر يعظِّمون ويمجِّدون ويسبَّحون هذا السر الالهي العظيم.
نَما يسوع في بطنها نمواً طبيعياً حتى ولدَتهُ في نهاية الشهر التاسع، يوم ميلاد يسوع كما نقول. تحرَّكَ في بطنها، وقدَّسَ أحشاءها. بحلوله في بطنها قدَّسها برُمَتها، الجنين الذي في بطنها متحدٌ بالالوهة. ما المردود عليها؟ أيّة قداسةٍ نالت، أيّة برَكةٍ نالت، أيُّ مجدٍ نالت، أيّ أنوارٍ نالت؟ ما كان تأثير هذا الحَبَل عليها؟ الله وحدَه يعلم. آمنَت بالسرّ وآمنَت بالتجسُّد الالهي وآمنت بأن الله سيتَّخذُ جسداً منها، جسداً يسكن في بطنها ولكن، هل فهِمَت هي هذا السر؟ السر أكبر منها. سر محبة الله أكبر منها لأنه سرٌّ إلهي.
نحن نقدِّس مريم العذراء ونُجِلُّها ولكنها إنسانٌ بلَغَ الكمال وليست الهاً. سر المحبة الالهية يفوق كلَّ وصفٍ. مريم العذراء وحدَها من بين البشر أدرَكتهُ أكثر من سواها ولكن يبقى سرّ الله فوق طاقتنا البشرية وفوق طاقة الملائكة. هي تحمِل في بطنها ابنَ الله وهي تعلم ذلك وتؤمن بذلك وقبِلَت ذلك. قَبولُها بهذا الأمر مدهش حقيقيةً، كيف قَبِلَت؟ بالرغم من كل تواضعها كيف قبِلَت عرضاً مثل هذا؟ قَبولها لهذا العرض آية من آيات الله، إنسانٌ يقبل أن يحُلَّ الله في أحشائه. الأمر مدهشٌ حقيقية. ولكنها إنسانٌ إستثنائيٌّ لذلك رضيَت بأن تكون أمّاً لله.
لا أستطيع أن أصف مريم العذراء ولن ولم أجد شخصاً يوفيَها حقَّها. الأمرُ عسيرٌ جداً، مريم أبعد من تصوراتنا بما لا يُقاس. نحن بشرٌ محلولون جداً، لا نستطيع ان نصل الى مرتبة مريم العذراء.
كان الجنين يتحرَّك في بطنها فماذا كانت تشعر، ماذا كانت تقول؟ تعلم أنه متحدٌ بالألوهة فكيف كانت تقضي النهار، كيف كانت تنام، كيف كانت تتحرك، كيف كانت تعيش، كيف كانت تأكل، كيف كانت تشرب، كيف كانت تصلّي، كيف كانت تبتهل، كيف كانت تركع، كيف كانت تسجد، كيف كانت صامتة، كيف كانت متكلِّمة؟ هل أدهَشها يسوع الى حدٍّ لازمَت فيه الصمت؟ نعلم أنها في بيت زكريّا أب المعمدان سَبَّحت الله ردّاً على إطراء اليصابات زوجة زخريّا، بعد ذلك لا نسمعُ لها صوتاً. إرتعَبَ يوسف بأمرِ حَبَلِها. هل سألَها؟ لا نعلَم. هل أجابَت؟ لا نعلَم. هل دافعَت عن نفسِها؟ لا نعلَم. ولكن لم تروِ لهُ قصةَ حبَلِها. كم كانت ثقتها بالله فائقة الوصف لتَصمُتَ أشهراً فيرتاب يوسف في أمرها. إرتابَ ولم يسألها، كان يعرفُها تمام المعرفة. أما كان يعرف أنها نذَرَت البتولية؟ جوابها للملاك “كيف يكون هذا؟” يدلُّ على أنها نذَرت البتولية. فإذن كان يعلم بذلك. لم يسَلها وهي صَمتَت لأنها واثقة بابنها، ابنُها يتدبَّر أمورَها. هل كان قصاص ليوسف على ذلك؟ الكلام كان له بالأحلام. نرى في إنجيل متى، الرب يكلِّمُه بأحلامٍ لا باليقظة، نرى الرعاة يسمعون البشارة من الملائكة عِياناً وجهاراً ويحلُّ حولهم النور الالهي بينما نرى إعلانات الله ليوسف في الحلم. يا يوسف، كان عليك أن تسأل مريم لأن مريم موضع الثقة، لماذا ارتبتَ؟ ولكن تدارك الله أمرَك، فأعلنَ لك أن المتولِّدَ فيها هو من الروح القدس وأنها ستلدُ ابناً وستسمّيه يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم لأنه يهوه المخلص، فادي اسرائيل ومخلص اسرائيل، أعلنَ لك الله بالملاك هذا. يا للبشرى العظيمة! أفَقتَ من نومكَ مرتعباً تلبّي الأمر الإلهي فوراً ولكنك تأخرتَ. مريم أبعد من أن تكون موضعَ ارتياب ولكن هي الطبيعة البشرية. أما كنتَ تراها غائبةً عن الوجود مدهوشةً بالله مخلِّصها؟ أما كانت تُخفي عنكَ سجودَها وعبادتها وتقواها؟ أما كان وجهُها ينمُّ عن إشعاعاتٍ خاصة، أما كان في وجهها ضِفرٌ خاص يُنبىء بأنها إنسانٌ قد خرج عن الأطوار الإنسانية وصار قلبُه في السماء وجسمُه على الأرض؟
مريم، كيف كنتِ تنامين وكيف كنتِ تستيقظين؟ أما كان الابتهال هو تنفُسُك الدائم؟ مَن يستطيع أن يحمِل هذا السر العظيم دون أن يغيب عن رُشدِه البشري ليُصبحَ ذا رُشدٍ الهي. يسوع الذي حلَّ فيكِ، أما جعَلَ عقلَكِ أعظم بما لا يُقاس من عقول الملائكة؟ أما جعَلَ رؤيتُكِ الالهية أعظم من رؤية الملائكة؟ الله فيكِ. ما هذا الحدث العظيم جداً، ما هذا التدبير الالهي العظيم جداً؟
كيف كنتِ تُصلّين، كيف كنتِ تتأملين، ماذا كان شعورُك نحو هذا الحَبل العظيم ونحو هذا الجنين الالهي العظيم؟ أما كان وضعُك وضعَ الدهشة الدائمة، أما كان وضعُك وضعَ الإعجاب الدائم بجنينِك، أما كنتِ مجنونة بحبِّ جنينِك، أما طار عقلك الى السماء؟ حَبلتِ تسعة أشهرٍ وكنتِ تشعرين أن الجنين ينمو شيئاً فشيئاً ويكبر شيئاً فشيئاً وأن وزنه في بطنك يزداد وأن ثِقَلَ وزنِه يزداد. امام هذا الثِقَل المتزايد أما كنتِ تُخطفين الى السماء الثالثة لتُعايني مجد الله في العلاء وعلى الأرض؟ ولماذا في العلاء وكلُّ مجدِ الله في بطنِك ما هذا الحظ الصالح الذي أصابَكِ؟ وسبحان الذي اختاركِ، سبحان الذي اصطفاكِ، سبحان الذي طهَّركِ وقدَّسكِ وجعَلكِ مسكِناً له. سكن الله في خيمة الاجتماع وسكنَ في هيكل سليمان ولكن كلّ ذلك كان رمزياً. ظهر يهوه لأشعياء في الهيكل فقالت صلوات عيد الدخول الإلهي إن هذا الظهور كان رمزياً “لما أبصرَ أشعياء أن الاله رمزياً على مِنبرٍ شاهق”. ما هو هذا المِنبر الشاهق الرمزي بالنسبة لبطنِكِ يا والدة الاله؟ هو عرشٌ رمزيٌّ أما بطنُكِ فعرشٌ حقيقيٌّ. قال كوزما المرنِّم العظيم رفيق يوحنا الدمشقي في ترانيم الميلاد: “إنني أشاهد سرّاً عجيباً مستغرباً، الأرضَ سماءً والبتول عرشاً شيروبيمياً”. نعم، مريم العذراء عرشٌ سماويٌ للأُلوهة، هي الفتاة التي اصطفاها الثالوث القدوس. وبما أنها مصطفاة الثالوث القدوس فهي مختارةٌ لديه ومعظَّمةٌ لديه أكثر من الملائكة والبشر بما لا يُقاس، فهي “أكرمُ من الشيروبيم وأرفع مجداً بغيرِ قياسٍ من السيرافيم”. مريم العذراء حاملة المسيح في بطنها، هي فخرُ البشر ومجدُهم، فخرُ الملائكة والبشر.
ولما حان الأوان لولادَتها بتدبيرٍ الهيٍ سافرت مع يوسف الى بيت لحم لكي يكتتِبا في الإحصاء العام الذي أمرَ به الأمبراطور الروماني، وأعدَّت الأقمطة لأنها كانت تعلم أن الشهر التاسع هو شهر الولادة. فهل عرَفت الطَلْق والمخاض؟ الترانيم الدينية تقول لا. المتوّلد فيها هو من الروح القدس ولذلك فأحشاؤها طاهرة ومطهَّرة. ليست بحاجة الى طلقٍ ومخاضٍ، وحين الولادة لم تحتَج الى قابلة قانونية فهي التي قمَّطَت الطفل وهي التي وضعَتهُ في مذودِ البهائم. ولو كان الأمر يحتاج الى قابلة قانونية لتولَّت هذه الأخيرة الأمور. نحن نؤمن أن ولادَتها عجائبية، فهي بتولٌ قبل الحَبَل وأثناء الحَبَل وبعد الحَبَل. نؤمن أن يسوع المسيح ولِدَ بصورةٍ عجائبية فبيقيَت بتولاً لا ندري كيف خرجَ من أحشائها، هذه عجيبةٌ إلهية. لذلك، الأيقونات التي تُصوِّر قابلة قانونية تتولى الغسل والتنظيف تُعتبر أيقونات غير لاهوتية. مريم هي التي قمَّطته وهي التي أضجعَته في المذود وهي تولَّت الأمور كلّها من ألِفِها الى يائِها بدون حاجة الى مساعد. هذا سرٌّ الهيٌّ، سرُّ ايمان. نؤمن ببتولية العذراء الدائمة.
دستور الايمان قال” الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزلَ من السماء وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء”. أشعياء النبي قال” هوذا العذراء” فاذن، هي دائمة البتولية، هي العذراء الدائمة، ولذلك فولادتها عذراوية الهية سرٌّ من أسرارنا.
كلُّ شيءٍ في مريم عجيبٌ غريب، إنها الإنسان السماوي، الملاك الأرضي التي بحقٍ إمتدحَها الآباء ونظَموا في مدحِها القصائد والتسابيح. يعجزُ كلُّ لسانٍ فصيحٍ أن يفيَ بالواجب.
ماذا أقول في مدحِكِ يا والدة الاله؟ إنني أختار الاقتصاد في الكلام ليبقى عقلي مدهوشاً كلَّما خطر لي أنكِ حَبِلتِ بيسوع الرب. أخرجُ من الوجود، أخرجُ من هذا العالَم: كيف أن فتاةً صارت أماً لله؟ يا الهي، يا الهي، إملأ قلبي من نِعمَتِكَ لأستطيع آنذاك أن أمدحَ العذراء مريم. بدون الامتلاء من الروح القدس عبثاً أحاول أن أمدَحكِ يا والدة الاله. وكيف أمتلىءُ من الروح القدس بدون رضوانِك؟ فيا أمي، يا أمَّ المؤمنين جميعاً يا أمَّ أخينا يوحنا الحبيب توسّلي الى ابنكِ الحبيب أن يملأنا من روحِه القدوس. أنتِ يا عذراء فتحتِ لنا الباب لنصير أمّاً وأختاً وأخاً ليسوع وأبناءً لكِ وإخوةً ليسوعَ المسيح. ألم يَقل ابنكِ الحبيب يسوع المسيح مَن يعمل بمشيئتِه هو أمُه وأخوه وأختُه؟ ألم يَقل وهو على الصليب ليوحنا الإنجيلي “هوذا أمُّكَ” ولكِ “هوذا ابنُكِ”؟، فنحن بواسطتِك صرنا إخوة وأخوات ليسوع وأولاداً لكِ. يقول يوحنا الإنجيلي: “هذه هي السماء الحقيقية، هذا هو الملكوت الحقيقي”. إن كنا لا نشعر الآن به بسبب ثِقَل خطايانا، فنحن اذن بواسطتِكِ يا والدة الاله صِرنا سلَفاً في بالنعيم. أيُ نعيمٍ أعظم من أن ألِدَ يسوع وأن أكون أخاً وأُختاً ليسوع وأن أكون أماً ليسوع وأخاً ليوحنا الإنجيلي؟ يسوع أنتَ أخي، مريم انتِ أمي، يوحنا الإنجيلي أنتَ أخي فإذن، ماذا اعمل في هذا الكون، ولماذا هذا الكون، وماذا أنفع إن ربحت هذا الكون برُمَّتِه؟ كلُّ هذا الكون هَباء منثور، كلُّ هذا الكون أوهى من التِبن والقش بعد هذا المجد الذي حلَّ فيها. انا اليوم، بواسِطَتِكِ يا مريم العذراء، ابنُكِ وأخوه وأختُه وأخُ يوحنا الإنجيلي. آه هذا هو الملكوت. ما من ملكوتٍ أعظم من هذا الملكوت. بعد هذه النعمة الالهية العظيمة، انا التراب، انا الدود. بواسطتِكِ بلغتُ هذا المجد. فيا ايها المؤمنون في الأرضِ كلِّها سبِّحوا بأفواهٍ لا تصمُت مريم العذراء التي جلَبَت لنا هذا النعيم.
ايتها العذراء البتول الطاهرة النقية أمُّ المسيح الاله تشفعي دائماً لديه بعبيدِكِ المؤمنين واطلبي الى ابنك الحبيب أن يملأنا من روحه القدوس لكي نستطيع على الدوام أن نكون مدهوشين بجلال مجدِك ومعظِّمين لابنكِ الحبيب الرب الفادي الحبيب له المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين آمين.