اسبيرو جبور
الأعياد السيدية
(مواعظ ومقالات)
2011
الصوم الكبير
الصوم الكبير هو أحد أركان الحياة الدينية في الكنائس القديمة. في الكنيسة الأرثوذكسية كتابٌ اسمه التريودي أي الأنشودات الثلاث الترانيم فيه تسمّى قانون، والقانون مؤلف من تسع أودية، والأودية لفظة يونانية أي أنشودة. هذا الكتاب يبدأ في أحد الفرّيسي والعشار، بعدَ هذا الأحد يأتي أحد الإبن الشاطر ثم أحد مرفع اللحم ثم أحد مرفع الجبن ثم يبدأ الصيام الكبير. وفي هذا الكتاب ترانيم مختلفة متنوعة، يئمُّ المؤمنون الكنائس كلَّ مساءٍ ليحضروا الصلاة المسمّاة صلاة النوم الكبرى. لا مجال في عظةٍ واحدة طرق الموضوع برمَّته. الأب الفرنسي الراهب الآثوسي مكاريوس أنشأ كتاباً في التحليل التريودي من 1100 صفحة من قياس صفحات الدكتيلو قديماً وهو كتابٌ رائع ومرجعٌ كبير ودراسةٌ ممتازة لا يمكن تلخيصه بعِظَة. هذا الكتاب يتضمَّن صلواتنا في الصوم الكبير برمَّتها، فصلاة النوم الكبرى مدوَّنة في السواعي الكبير وخدمة القداس الالهي مدوَّنة في قنداق الكاهن. في الصوم الكبير نقيم القداديس على التالي: في أيام الأربعاء والجمعة نقيم قداس البروجزماني لبابا روما القديس غريغوريوس الكبير. يوم السبت قداس ليوحنا فم الذهب، والسبت في الكنيسة الأرثوذكسية مخصَّص للأموات. اما يوم الأحد، ففي الآحاد الخمس الأولى نُقيم القداس للقديس باسيليوس الكبير وهو قداسٌ حافلٌ بالمعاني اللاهوتية وبالأفاشين، صلواته رائعة جداً ولكنه طويل. في الأسبوع السادس نعود الى قداس يوحنا فم الذهب وبعد الأيام 48 نحتفل بعيد الفصح. نستعدُّ لعيد القيامة بصومٍ من 48 يوماً تبدو فيه الأرثوذكسية ناسكةً جاهدةً كأن بلاد الأرثوذكس براري للنساك والرهبان بنسبةٍ لا بأس فيها. الصلواتُ هي روعةُ الروعات، النسك والزهد في هذه الصلوات عظيم، وتذكُّر الآخرة والدينونة والحساب رائع. تسير الكنيسة من درجة الى درجة في السلَّم الالهية لترتقي الى اسبوع الآلام العظيم. فالصوم في الكنيسة أساسيٌّ وفي الأرثوذكسية بصورةٍ خاصة، وسيلةٌ من وسائل الكنيسة لكي يبدأ الإنسان برفع نفسه فوق الجسد ولكي يصعَد في سُلَّم الروح، لكي يلجُمَ جسدَه واهواء جسده وشهواته لينصرف الى الشهوات الروحية. في غلاطية حربٌ بين الروح والجسد. في الصوم الكبير تندلع هذه الحرب: الصوم سلاحُ الروح لقمعِ اهواءِ الجسد وشهواته ولكن بشرط أن يقترن الصوم بالصلاوات وبالأعمال الحسنة. وليس الصوم بحدِّ ذاتِه ينبوع الخيرات، فبدون الأعمال الحسنة، هو عملية جسدية مرهِقة للجسد اما بواسطة الصلوات والأعمال الصالحة فإنه يُصبح تقديساً للروح والجسد.
في الصوم الكبير تُسيطر سيدات البيوت التقيّات الفاضلات الآدميات على البيت، فيضطر الأولاد وأبوهم الى مراعاة مشاعر ربَّة البيت فيصومون. قد يتضجَّر البعض ولكن إكراماً للأم وللزوجة يتحمّلون متاعب الصيام. هذه أمور تبقى متروكة لحِكمة النساء الفاضلات وربّات البيوت الجيدات المؤمنات الساجدات الملتمسات من ربِّ العباد الفوزَ بالملكوت السماوي العظيم.
في الصوم الكبير يتجنَّب الناس الرذائل والمخاصمات ويعرفون أن الصوم هو زمان التوبة والركوع والسجود والندامة والبكاء والتحسُّر، هو زمان المصالحات والغفران والتقدُّم من الكأس المقدسَّة بسجودٍ عميقٍ. قوَّة الصوم تكون في جذب الروح الى الآلهيات. الصوم يشبه الأيقونة التي تُذكرُّنا بيسوع وأمِّه والقديسين وهو وسيلة محسوسة ملموسة تُذكِّرنا بالصلوات وبالإهتمامات الروحية، وبالإنجيل وبكل الأمور المرتبطة بالتقوى.
الصوم يُقرِّع ذهنَنا. اثناء الصوم يؤثر الجسد على الروح، فيجب الإنتباه باستمرار الى الأمور الدينية. كما قلت هو شبيه بالأيقونة، إن نَظَرنا الى الأيقونات، ننتبه ونلتفت وننصرف الى الصلوات فلذلك الصوم هو وسيلةٌ قوية جداً للمحافظة على ذِكر الله والإهتمام بالإنجيل. التريودي والصلوات الأخرى هم مثل المِطرقة تقرع صدورَنا بذكر الله، بذِكر الدينونة، بذِكر الإنجيل، بذِكر التوبة. في التريودي قانون اندراوس الدمشقي أسقف كريت وهو أطول القوانين في الكنيسة وكلُّه توبة وندامة وفحص للضمير. وفي ثنايا التريودي قطعٌ كثيرة تتعلَّق بالتوبة بالخشوع بالندامة بالركوع وبالإنصراف الى الالهيات. التريودي كتابٌ يُذكُّرنا دائما بالله ويدفعنا دائماً الى الصلاة.
خلال الصوم الكبير نتذكر الصليب، فالأحد الثالث من الصوم هو أحدُ الصليب لأن صليب ربِّنا يسوع هو قلبُ عبادَتنا ونحن مطالَبون بأن نحمِل صليب ربِّنا يسوع المسيح وأن نُصبر على كل شيء إكراماً لصليب ربِّنا يسوع المسيح، نتذكر فيه ايضاً قديسينَ عديدين وننشد فيه أناشيدَ رائعة. في الأسبوع الأخير من الصوم الكبير نصل الى أحد الشعانين ثم الى الأسبوع العظيم. في يوم أحد الشعانين نُرافق الرب يسوع المسيح الى المدينة المقدَّسة وندخلها معه على حسَب ما قال القديس غريغوريوس اللاهوتي “بالأمسِ تمشَّيتُ مع المسيح على شاطىء بحيرة طبرية، بالأمسِ دخلتُ أورشليم معه، بالأمس صُلبتُ معه، بالأمس دُفنتُ معه، والآن أقومُ معه”.
حياةُ يسوع المسيح هي حياتُنا أيضاً، تتجسَّد حياته في حياة كلِّ واحدٍ منا. وفي مساء أحد الشعانين نسمع الترنيمة الجديدة “ها هو الخَتن يأتي في نصف الليل” كلمة الخَتن عربية آرامية، في العربية تعني الصهر، في الارامية تعني العريس. فاذن صلاة الختن هي صلاة العريس والعريس هو ربُّنا يسوع المسيح الذي يأتي في نصف الليل. يأتي في نصف الليل، فماذا علينا أن نعمل؟ الإستعدادات كبيرة. علينا أن نستعد إستعداداً كبيراً لملاقاة الرب لندخل معه الى عرسه السماوي. في يوم الثلثاء العظيم نسمع ترنيمة ” المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة” وهي ترتيلةٌ رائعة جداً وقوية جداً وفيها من المعاني والعمق ما فيها. في يوم الأربعاء العظيم نُقيم صلاةَ تقديسِ الزيت، أما في يوم الخميس العظيم ففي القداس الصباحي لباسيليوس الكبير نتلو قسماً هاماً من قصة الآلام، وليلاً نقيم الصلاة السَحَرية ونتلو 12 فصلاً من الأناجيل الشريفة تتعلَّق بآلام الرب تتخلَّلُها صلوات عديدة وتراتيل. في التراتيل عمقٌ روحيٌ دينيٌ لاهوتي عظيم جداً. مَن لا يعرف اليوم “عُلِّق على خشبة” و “أوّاه” ؟ “أوّاه” تُقال في الساعات يوم الجمعة بدون قداس ونتذكر فيها آلام الرب بتلاوات من الإناجيل ومن الرسائل ومن الأناشيد. بعد الظهر، نحتفل بصلاة الجناز مبدئيا هي لسحرية السبت وفيها الأناشيد والعمق اللاهوتي، هي ليست بكاءٌ وحزنٌ، فالقسم الأول والثاني من الأناشيد يُقال ترنيماً باللحن الخامس أي بلحنِ الفرح والسرور والقيامة، لأن آلام الرب ليست سبباً للحزن العميق وذلك أن المسيح إنتصر على الصليب على قوى جهنم، على الشيطان، على الخطيئة، على الموت، على الضعف البشري، ولذلك الروس يُحيطون الصليب المعدني بأشعةٍ أي أن الصليب نوراني. نعرف أن يسوع المسيح على جبل التجلي كان يتحدث وموسى وايليا حديثاً خاصاً يتعلَّق بآلام الرب في الجلجلة وبذلك تكون الجلجلة وجبل التجلّي متَّحدَين. الصليب مشعشع، الصليب نوراني. لا يتَّخذ الصليب في الأرثوذكسية معنى الندب والحزن والرِثاء، ففي تراتيلنا معاني الفرح والغبطة والنصر العظيم.
خلال الأسبوع العظيم تُتلى التراتيل فهي آياتٌ من الفن الترتيلي الرائع. مَن لا يُعجَب بترتيلة “إن موسى العظيم”؟ إننا نتهيأ خلال الصوم الكبير لإستقبال القيامة، فاذن الوصول الى القيامة يكون عبر الآلام فبالصليب أتى الفرح لكل العالم فهكذا نصلي. بالصوم والصلوات والسجود والتوبة والخشوع وقرع الضمير، نرتدي صليب المسيح كسلاحٍ قويٍ جداً ننتصر به على ضعف الطبيعة فنصل الى يوم القيامة المجيدة. القيامة بدون الصليب غير موجودة. كما كان الصليب والدفن طريقَنا الى القيامة، هكذا صومنا الكبير يكون طريقُنا الى فرح القيامة. قد يتضجَّر بعض الضعفاء اليوم من الصوم ومن صلواتنا الطويلة في الصوم الكبير، هذا لا يؤثر على الحقيقة بشيء. فالأرثوذكس في تجمِّعاتهم الكبيرة كروسيا ورومانيا لا يقبلون بالتنازل عن شيءٍ من هذه الترتيبات الكنَسية التي دوَّنها لنا الآباء القديسون خلال مئات السنوات. منذ القرن الأول للميلاد وحتى القرن الحادي عشر بعد الميلاد آباءٌ قديسون ورهبانٌ ونساك اتجهوا نحو تأسيس تراثٍ أورثوذكسيٍ روحيٍ فكان هذا التراثُ الأورثوذكسي العميق. الأرثوذكسية عملاقٌ كبيرٌ جداً بفضل هذا التراث، التخلي عن هذا التراث للدراسات العقلانية لم يُفِد المسيحية بشيءٍ بل أضرَّ بها كثيراً فخرج بحّاثون مِهنتهم البحث ولكن بدون تقوى وعبادة وسجود. العهد الجديد كتابٌ نزل من السماء لكي يغيِّر حياتي برمَّتها فينقلُني من إنسانٍ ترابي جسداني الى إنسان روحاني سماوي. فالعقلية الجامدة والمباحث العقلية الجامدة لم تنفع الباحثين بشيءٍ.
اما التريودي فهو يُغيِّر الحياة بالعمق، فالصوم والصلوات والقراءات تؤثر روحياً فينقلب الإنسان من العالم المادي الى العالم الروحاني. الصوم الكبير هو الفرصة المتاحة لنا في كل عام لنرتفع من الأرض الى السماء لكي ننتقل بعقولنا من الهموم المادية الى الهموم الروحانية. الصوم الكبير هو بَرَكة كبيرة جداً تجعل الناس يغتسلون بمياه التوبة. الصوم الكبير منخس كبير ينخس ضمائرَنا لنتذكرَ خطايانا ونتوبَ عنها. المدخِّن الكبير يرتدع في الصوم فيتوقف عن التدخين او يعتدل. الإعتدالُ في الصوم الكبير قاعدة عامة للحياة، المؤمنون الصائمون يعتدلون في كل تصرفاتهم، يفحصون ضمائرهم، يؤنبون أنفسهم، يراقبون تصرفاتهم، ويكتشفون انفسهم. يتذكرون الرب يسوع والحساب العسير والمجد العظيم. في الصوم الكبير كلُّ شيء يتجدد. باسيليوس الكبير قال ” إن الصوم يُطفىء الحروب” وهذا صحيح، الشعوب الصائمة لا تحمل السلاح ولا تنتقم ولا تنحر الآخرين. في الصوم الكبير يرتدع الصائمون عن شبوهٍ كثيرة. الصوم الكبير موسَ تقطع ما هو رديء في الإنسان، موسَ تقطع لسانه فيتوقف عن الكذب والغش والخداع والحِرَف، يهذِّب النظر والسمع. هل يستطيع الصائم أن يسمع الأحاديث السخيفة، أو أن يفكِّر في الإنتقام وإيذاء الآخرين وحياكة المؤآمرات؟ لا. الصوم الكبير هو اداة الهية لقطع الرغبات والشهوات والميول والعادات الرديئة في كل مناح الحياة. الصائمون حقيقةً لا يصومون فقط عن الطعام بل ايضاً عن الرذائل والمساوىء. الصوم هو جسدي حقيقةً ولكنه في الواقع إرتفاع النفس عن الأمور الأرضية نحو الأمور السماوية. الصائم الحقيقي هو إنسانٌ يشتاقُ الى الله، جاء في المزمور 41 “كما يشتاق الأيل الى مجاري المياه كذلك تشتاق نفسي اليك يا الله”. الصائم يتخلّى عن اشواق الجسد ليرتفعَ بأشواقِ الروح الى الله. الصوم الكبير قيودٌ لحواسي الجسدية فيُفتح المجال امام حواسي الروحية. كلّما صام جسدي وحواسي حقيقةً، كلّما اتجَّهت قواي الى الله، هذه القوى التي أُنفِقُها في ملذّات الجسد وفي إرواء شهوات الجسد وأهوائه تنقلب لتتَّجه نحو الروح. يجري تحوّلٌ جِذريٌّ لقِواي فتتحول عن إنفاقِ ذاتها في الأمور الجسدية لتصعد فتتوجَّه الى الله. عُشقي للجسد ينقلب الى عُشقي لله، حبي للخمر يتوجه الى حبٍّ لله، كلُّ شيءٍ في الإنسان الصائم حقيقةً يتحول الى الله. وفي نهاية الصوم يرى الصائم الحقيقيّ نفسه قد صار إنساناً جديداً، هذا الإنسان الجديد هو الذي يستحقُّ يوم عيد القيامة أن يخرج من القبر مع المسيح ويقوم مع المسيح ليعيش مع المسيح وفي المسيح للآب السماوي القدوس. يسوع صام، يوحنا المعمدان كان ناسكاً كبيراً جداً يعيش على العسل البرّي والجراد ويلبس عباءةً من وبر الإبل، ايليا النبي صام، وبولس صام كثيراً. الصوم هو مؤسسةٌ كنَسيَّة، ليست الكنيسة في الهواء، الكنيسة هي على الأرض، أمورُها منظَّمة منذ عهد الرسل وحتى اليوم لكي ننمو روحياً في يسوع المسيح. الكنيسة هي امُّنا ومعلِّمتُنا ومربيّتُنا روحياً منذ مئات السنين، نظَّمت لنا الصوم والصلوات والعقائد والنُظُم الأخلاقية بما يكفل انسان مسيحي كامل. الكنيسة هي أمُّنا التي تقودنا الى الكمال، مؤسساستها هي مؤسسات الهية، صلواتُها هي صلوات الهية، أصوامُها هي أصوامٌ الهية، الرب قال في نوعٍ من الشياطين ” هذا الجنسُ لا يخرج الا بالصوم والصلاة”. فالصوم والصلاة متحدّان وهما يُعطيان المؤمن النصرَ على الشياطين. كلام الرب يسوع الصريح في الجثمانية ” إسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة” الصوم والصلاة والسَحر، أركان الحياة الروحية. وصلاةٌ بلا أصوام غيرُ موجودة في العهد الجديد. قال يسوع ” متى صِمتَ لا تدَع وجهَك يكن كالحاً كوجه الفريسيين” فيسوع له المجد لم يرفض الصلاة والصوم والصَدَقة بل رفضَ فرّيسيَّة الصوم والصلاة والصدقة عند الفريسيين وغيرهم. موسى بعد الصوم أخذ الألواح، ايليا بعد الصوم شاهدَ مشاهدةً الهية اما يسوع بعد الصوم انتصرَ على الشيطان ولم ينتصر وحده على الشيطان بل علَّمَنا أن ننتصر بالصوم على الشيطان. الكنيسة تُدرِّبنا بالصوم والصلاة والأسحار على الإرتقاء نحو يسوع المسيح. الصوم جزءٌ لا يتجزأ من العبادة الأرثوذكسية. ما هو فخر الكنيسة الأرثوذكسية عبر التاريخ؟ هو نساكها ورهباناتها. بماذا نفتخر؟ بالشهداء والرهبان والنساك. القديس افرام وسواهم من الآباء القديسين قالوا أن الشهيد يموت دفعةً واحدة اما الناسك فيموت كلَّ يومٍ فالناسك هو كلَّ يومٍ شهيدٌ. كم عندنا من النساك ومن الشهداء والرهبان عبر التاريخ وفي تاريخنا هذا؟ أما زال رهبان جبل آثوس يحتلّون الصدارة في العالم المسيحي؟ وهل ننسى رهبانات روسيا ورومانيا العظيمة؟ وهل ننسى أن تراثَنا الروحي هو الى حدٍّ بعيد من أصابع الرهبان والنساك؟ هل ننسى في بلادنا أبنائنا سمعان العامودي الذي إخترع هذه الطريقة في النسك التي أذهلَت العالم في أيامه وما زالت تذهلنا جميعاً ودانيال العامودي؟ هؤلاء كلهم هم جوهر الأرثوذكسية الى جانب الشهداء. الا تفتخر روسيا اليوم بعشرات الملايين من الشهداء الذين سقطوا تحت اسلحة الظلم؟ وفي السنكسار المطوَّل ماذا نشاهد؟ عناد للنساك والشهداء.
الكنيسة الأرثوذكسية في الصوم الكبير هي حقيقةً كنيسةُ النُسكِ والزُهدِ والإرتفاع الى الله، كنيسة الصوم، كنيسةُ الركوع، كنيسةُ السجود وكنيسةُ الإبتهال. ما هي الحياة الروحية بدون الصلاة والصوم ؟ هل هناك حياة روحية بدون الصوم والصلاة وقراءة الإنجيل؟ ما هو طعام الروح؟ هو الصوم والصلاة وحياة الإنجيل، أي الفضائل ايضاً. كما أن الخبز والماء وتوابعهما هما للجسد، كذلك الصوم والصلاة والنسك والسهر وحياة الإنجيل هم طعام الروح. بدونهم تجِفّ الروح. بدونهم ماذا ينفعني الكتاب المقدس لو حفظته إن لم اصلّي؟ قراءة الكتاب المقدس تحتاج الى الصلاة. كلُّ شيءٍ روحيّ يحتاج الى الصلاة وعليه أن يمتزج بالصلاة. الصلاة هي الباب المفتوح أمامي لأُلاقي الرب يسوع المسيح. الصوم يحتاج الى الصلاة، قراءة الإنجيل تحتاج الى الصلاة، الفضائل تحتاج الى الصلاة، كلُّ شيءٍ يحتاج روحياً الى الصلاة ليمتزج بالروح القدس. وهل يحلّ الروح القدس في حياتي بدون أن أفتح صدري للروح القدس؟ وكيف أفتح صدري للروح القدس؟ بالصلوات، والصلوات بدون الصوم لا تكفي لأن جسدي مشاغب ٌكبيرٌ، فعليَّ أن ألجُمَ جسدي. هل الصوم يتلاقى والحياة اليومية؟ لا تناقض بين الصوم والحياة اليومية ولكن هناك بشرٌ عبَدوا جسَدهم وعبدوا جيوبَهم فهؤلاء يحتجّون على الصوم ويتذمَّرون، لماذا؟ لأنهم جسديّون ضعفاء. التقيُّ الذي يخاف الله ويُحب الله ينتظر قدوم الصوم الكبير بفارغ الصبر. اذا صدَف أن يقع عيد الفصح في 8 ايار فالأتقياء الحقيقيون الساجدون لله بالروح والحق يتضجَّرون لأن الصوم غير قريب ولأن الفصحَ من عيد الميلاد الى الصوم عشرات الأيام. كلَّ الناس الذين يعشقون الله يتضايقون خلال هذه الفِسحة، لماذا؟ لأنهم في شوقٍ كبير الى الفصحَ ليُلاقوا المسيح عبر الصوم. هوذا بالصليب أتى الفرح الى كل العالم، وهوذا بالصوم قد بلَغنا قيامة المسيح. الترتيب الكنَسي رائع، لا تصل الى القيامة بدون صليب الصوم. لكي نَصل الى التجلّي يجب أن نمرّ بالجلجلة، الصليب هو طريقُنا الى القيامة، الى التجلّي، هو طريقُنا الى ملكوت السماوات، يجب أن نحمل صليب الأصوام، علينا أن نحمل صليب الصوم الأربعين الكبير بتقوى كبيرة منسجمين إنسحاماً تاماً مع الخِدَم الالهية خلال الصوم الكبير لكي نصعَدَ الى جبل الرب ونعاين مجدَ قيامتِه المجيدة. فاذن الصوم الكبير في الكنيسة الأرثوذكسية هو محورٌ الهيٌّ كبير والإحتجاجات عليه باطلة لا يحتجُّ عليه الا عُبّاد البطون وعُبّاد البطون قومٌ يُسيئون الى أنفسِهم. قال الرب يسوع ” لا تستطيعون أن تعبدوا ربَّين، الله والمال” ولا يستطيع أحدُ أن يعبُدَ بطنُه وربَّه فلا بدَّ اذن أن نلجُمَ البطن لكي ننصرف الى الله. الإنسان الذي يلجم بطنُه، يلجم شهواته وأهواءه الجسدية فينصرف بقواه المستجمَعة بالصوم الى عشقِ يسوع المسيح. الهرب من يسوع المسيح هو الذي يجعل البعض يحتجّون على صلواتنا وأصوامِنا. أما كان العلماء مؤمنين؟ فلا تناقض بين العِلم والعمَل من جهة، والايمان والصوم من جهةٍ أُخرى. التناقض هو في رأس الهاربين من يسوع المسيح الذين يحتجّون بحُججٍ فارغة. اذن، الصوم الكبير هو سُلَّماً الهيةً للصعود الى يسوع المسيح، للصعود الى قبر المسيح والى جبل التجلّي. لا قيامةَ بدون الصليب ولا تجلّي بدون الصليب ولا صليب الّا بالصوم والصلاة والأعمال الحسنة. لذلك الصوم الكبير هو صليبٌ كبير ندخل به الى قبر المسيح لنقوم مع المسيح ونتجلّى مع المسيح بالأنوار الالهية التي فاضت من قبر المسيح وعمَّت العالم وهدَت العالم الى المجد الأبدي فصار الناس يؤمنون أن القبر صار وأن الوجود الحقيقي هو في قبر المسيح أي الإنتقال من موت الجسد الى حياة الروح، الإنتقال من هذا العالم الفاني حيث الناس يموتون بخطاياهم الى العالم الآخر والإنتقال من الموت الى الحياة ومن الأرض الى السماء، من موت الخطيئة على الأرض الى العيش في ملكوت السماوات بنعمة الله. الصوم فالصوم!! اذن، لا تهرُّب من الصوم أبداً. الصوم جزءٌ لا يتجزأ من الحياة الأرثوذكسية.
لا نستطيع أن نقتدي بسوانا من المحتجّين على الصوم. الإحتجاج على الصوم هو عملٌ غير أثوذكسي. الأرثوذكسي يعشق الأصوام ويُطيع كنيسَته التي رتَّبت الأصوام والصلوات بصورةٍ مدهشة تخلُب الألباب، فخدمةُ أسبوع الآلام وخدمة الفصح روعتان من روائع التاريخ. أيُّ شيءٍ في العالم يُعادل إحتفالات أسبوع الآلام والفصح؟ لا شيءَ في العالم. الصوم الكبير هو المناسبة السنوية العظيم لكي نعيش في السماء لا على الأرض، نعيش مع الملائكة والأبرار والصدّيقين والملائكة، نسير على الأرض ولكننا نعيش في السماء. اسأل الله أن يحفظ الأرثوذكس أُمناء لتراثهم العظيم ويقطع دابر الإحتجاجات السخيفة ويمنح الجميع قوةً نفسية تطحن الصخور ايماناً ومحبةً ورجاءً وصبراً جميلاً ليحفظوا الإنسان ملاكاً في جسد على رجاء القيامة العامة والمجد الأبدي في ربِّنا يسوع المسيح له المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.