اسبيرو جبور
الأعياد السيدية
(مواعظ ومقالات)
2011
المقدِّمة
هذه الفصول سُجِّلَت على المسَجِّلة ليسمعَ الأحبَّةُ صوتي المرتَجِل لها. فيها بعضُ الضعف الأدبي واللغوي لأنها مرتَجَلة لكي تكون على الطبيعة كما يقولون، ولكن متى طُبِعَت ستُنَقَّح. حَفِظ الله السامعينَ والقارئين وجعَلَهم آيات من آيات الله في العزِّ والكرامة والتقوى. الله يحفظ المؤمنين أجمعين.
في يوم العنصرة المجيدة، أي عيد الثالوث القدّوس له المجدُ والإكرام والسجود نتوجّه اليكَ يا إلهي الثالوثيّ الأقانيم، أن تُرسِل مجدَكَ الى الأرض ليحلَّ في المؤمنين. اسألُكَ أن يحلَّ الروح القُدُس في المؤمنين كما حلَّ في يوم العَنصَرة على رؤوسِ التلاميذ بشكلِ ألسنةٍ ناريّة فحوَّلَهم الى معلّمينَ في المسكونة. توارى امامَهم ناموس موسى وفلسفة اليونان. نعم يا إلهي، الروح القُدُس الذي حلَّ على التلاميذ أوعَبَهم من كل خيرٍ وبرٍّ وفضيلة ومجدٍ وكرامة ونعمة ومواهب لا تُعَدُّ ولا تُحصى. فهَدوا البشريةَ الى الايمان المستقيم، الى الايمان بالآب والأبن والروح القدس. وأخرجوا الناس من رفقة الناموس الموسوي أو من الوثنية والأوهام والسِحِر والشَعوَذة والأشكال الوثَنية وعبادات الأصنام ورجاسات العُمر وسخافات العيش الفاسد والانحلال الأخلاقي. يا الهي، إنَّ الزمانَ قسَا على مشرِقِنا منذ نيِّفٍ وتسعة قرون حتى انتهينا في العهد العثماني الى الفراغ الروحي والعلمي والثقافي والحضاري والى حالات من الجَهْل والسطحية الدينية، ولكنك يا الهي انت تعرف في العام 1942 أخذ فريقٌ من الشباب على عاتِقه النهوض بالكرسي الأنطاكي المقدَّس لإنقاذه من هذا الفراغ وهذه السطحية وبَذلنا جهوداً يعلَمُ الله نوعيَّتَها وحجْمَها، ولكننا انصَدَمنا بالتراث التَخَلُّفي المزمِن من القهْرِ والتقهقُر الحضاري والسطحية الدينية فانتشرنا نَعِظُ ونُعَلِّم ونُبَشِّر ونُحيي الرميمَ من العظامِ روحياً. نَجحنا قليلاً لأن المهمَّة شاقة جداً والآن ربيعنا وصل الى أواخر الوقت فماذا يكون بعدَنا؟
ربَّنا الهَنا بذلنا جهوداً خلال 68 عاماً وسنبذُلُ جهوداً حتى الرُقاد قدرَ المستطاع لنُكافح السطحية الدينية والفراغ الروحي والثقافي والعلمي والحضاري والمدَني والفكري. فالعهد العثماني طَمَس الفِكر طمساً كاملاً ولذلك عملنا منذ البداية على تلقين الناس مبادىء الايمان ودرّبناهم على الممارسة الدينية والصلوات والأصوام وانتهينا في عهدِ البطريرك الخالد ثيودوثيوس ابي رجيلي الى استناد الأقلام كسيوف لإنشاء الكُتُب الدينية لكي نؤسِسَ في اللغة العربية لاهوتاً ارثوذكسياً آبائياً متيناً قوياً. ولكن مالَ المؤمنون الى سِيَر القدّيسين. هذا أمرٌ جيِّد. بينما تقضي الضرورة التاريخية ايضاً أن يبنوا لأنفُسِهم فِكراً ارثوذكسياً لاهوتياً، فتُراثُنا الأرثوذكسي العريق غنيٌّ جدّاً جدّاً للتربية الفِكرية والخُلُقية والإنسانية. هو تراثٌ عالميٌّ عميقٌ جدّاً يحتاج الى عناية شُبّانِنا وعناية الجامعيين والمثقَّفين فلا يجوز أن نبقى سطحيين. هذا الفكر العالمي العظيم العميق يستحق من كلِّ مؤمنٍ عنايةً خاصة. فسِيَر القديسين مفيدة لكن يجب أن نخلص من السطحية الدينية ومن الفراغ الروحي والثقافي بفِكرٍ لاهوتيٍ ارثوذكسيٍ عميق. العُمق الشخصي يحتاج الى عمقٍ لاهوتي، روحي، حضاري، ثقافي، مَدَني.
لا يكفي أن نسيرَ كغنمٍ، يجب أن نسيرَ كأُسودٍ ممتلئين فكرياً، ثقافياً، حضارياً، لاهوتياً، روحياً، أدبياً، من كل النواحي. نحتاج الى بناء شخصية ارثوذكسية عميقة والاّ بقَينا في السطحية العثمانية وبَقيَت العقلية العثمانية تحكم هذا الشرق الى مئات السنين. لا اتوقَّع أن يتخلّص الشرق من العقلية العثمانية قبل مئتين أو ثلاثمئة سنة إن استمررنا على الوتيرة الحالية من الفوضى الفكرية والثقافية الروحية واللاهوتية. نحن بحاجة الى برمَجَةِ حياة، لنتخلّص من الاعتباطيّة والارتجال والسَير الاعمى بدون روِيّة. نحتاج الى فكرٍ عميق لنُصبِح متبصِّرين ذوي رؤية عميقة بعيدة المدى لنسيرَ سَيراً واعياً حكيماً دقيقاً في حساباتٍ دقيقةٍ جدّاً. يجب أن تكون خطواتنا جميعاً محسوبة بدقة كمبيوتيرية. هذا العيش على الطريقة العثمانية العشوائية يخرِّب الشخصية البشرية. الانسان العميق يكون يقظاً جدّاً، روحياً وفكرياً وثقافياً وحضارياً وأدبياً واجتماعياً. اليقظة الروحية والنباهة الفكرية ضرورتان للانسان الذي يعيش بحَسَب أصولٍ دقيقة حضارية. العيش العَفْوي المرتجَل، العشوائي الفوضوي، التلقائي، الإتّكالي، الرحماني، لا يصنع شخصيةً عميقةً متينةً. العمق الشخصي هو المهم في حياة كل انسان اما السطحية فهي العيش على هامش الوجود. كل انسانٍ فيلسوفٌ بنسبةٍ ما. والإنسان الأرثوذكسي الحقيقي هو فيلسوفٌ حقيقيٌّ لأنه يعيشُ بفِكرٍ نيِّرٍ عميقٍ دقيقٍ ويتصرَّف تَصَرُّفاً حكيماً، عميقاً مدروسًا بضميرٍ طاهرٍ صافٍ، خالٍ من الشوائب.
ليس الإنسانُ جماداً وليسَ حيواناً. إن كان جِسمُنا شبيهاً بجسم الحيوان، هذا لا يعني أننا حيوانات والإنسانُ انسانٌ بروحِه. الحيوان بلا روح، فهل عنده شخصية؟ هل عنده عمق شخصي؟ الإنسان هو روح، والروحُ تعيشُ في العمق الشخصي لا في السطحية. إن كان الإنسان سطحيّاً كان جَسدُه سيّدهُ المطلق وكان سيرُه تلقائياً، عفوياً، بلا روية، بلا فِكر، بلا انتباه، بلا أهداف، بلا غايات، بلا رؤية بعيدة المدى. الإنسان الحقيقي يكون ذا رؤية بعيدة المدى. المؤمن الأرثوذكسي يؤمن بأنه بموته ينتقل من الموت الى الحياة الحقيقية، ولذلك يضع على نفسه خططاً وبرامج تتعلّق بهذه الحياة، فيكون ذا بصيرة ورؤية تاريخية بعيدة المدى ينظر الى المستقبل البعيد، لا يعيش ليومه، لا يعيش لبطنه، لا يعيش لساعته بل يعيش للتاريخ. وأي تاريخٍ؟ التاريخ الأبدي. لا يعيشُ لساعات، وأيام وسنين بل يعيش للأبد. الأرثوذكسي الحقيقي يحقّق الأبدية في وجودِه الأرضي.
قد يقول كثيرون إن اسبيرو يغالي. انا لا أغالي ابداً ولكنني أؤمن بأنّ حياتي على الأرض هي ظلٌّ وخيال وأن الآخرة هي الحياة الأبدية. إن كانت الحياة على الأرض هي الحياة وليس من وجودٍ بعد الموت، فالحيوانات كلُّها أفضل مني بما لا يُقاس.
لماذا حماني الله بروحٍ قادرة على العمقِ الروحي والثقافي والعلمي والفكري، وكانت آخرتي مثل آخرة الصرصور؟ هذا لا يليق بي ولا يليق بكرامتي كإنسان. بعدَ عمرٍ مديد في الحياة والتجارب والخبرة والعلم والثقافة واللاهوت، لا أستطيع أن أرى في ذاتي صرصوراً أو أرنباً. هل من المعقول أن يكون الإنسان الذي يَحفر عميقاً في داخله أرنباً؟ الإنسان اسمى من ذلك بما لا يُقاس. انا كإنسانٍ خاطىء أعتبُر نفسي ادنس من الصرصور والجرذون لأن الوسَخ الطبيعي ليسَ خطيئةً، ليسَ دَنَساً. اما الخطيئةُ هي الدَنَس. فالأرنب غير دَنِس. الخنزير الذي يتمرَّغ في الأوحال غير دَنِس. أما انا بسبب خطاياي فدَنِسٌ. ولذلك عندما قال يوحنا الذهبي الفم، أنا أدنى من حيوان، كان مصيباً. وانا اقول مثلَه انّي أدنى من كل الحيوانات بسبب خطاياي، ومع ذلك فانا صورة الله. وبما أَني صورة الله، فأمامي مجال للخروج من أوحالي، من أدناسي، بالتطَهُّر بدمِ يسوع المسيح. وما دام دمُ يسوع المسيح طاهراً من كلِّ خطيئة، فأنا لا أخشى الموت، لا أخشى المقصلة ولا أخشى السيف، المسيح جعلني إنساناً.
ايماني بدم المسيح يجعلني أثق أني بعد الموت سأكون عند ربنا يسوع المسيح. ثِقتي بهذا الدم قاطعةٌ، هو الذي يُطهِّرُني من كل نجاسة. هو الذي يُطهِّرني من كل خطيئة ويجعلني فوق الحيوانات برمَّتها. لذلك أرى أن الواجب يقضي بأن ينصَرف أحبائي النشيطون الى العمل الديني بجدٍّ كبير. نمرُّ في مرحلةِ ركودٍ ويجب أن نجمَع قوانا كلَّها في معركة المصير.
انا أعرف أن احفاد العثمانيين عاجزون عن جمعِ قواهم. هذا العيب صدَمَنا خلال 68 عاماً. كنا نرى دائماً الأحباء مصابين بالتشتُّت، مصابين بالضَجَر من الكتب الدينية. علَّمْنا الناس أن يُمسِكوا العهد الجديد وأن يُطالعوه. علَّمنا الناس الممارسات الدينية والأصوام. نجحنا بنسبةٍ جيدة تقريباً. ولكن كان العيب الكبير هو العجز عن جمع شِتات النفس. التركيز عسيرٌ على أحفاد العثمانيين. طبعاً آباؤنا واجدادُنا ولِدوا في العهد العثماني والأصغر مني سناً هم أحفاد العثمانيين او أحفاد أحفاد العثمانيين، علاقتنا بالعثمانيين ما زالت موجودة. بُنيتنا العقلية – النفسية، عثمانية بنسبةٍ كبيرة. هذه البُنية عاجزة عن التركيز عن جمع شِتات النفس، شِتات الأفكار، شِتات المرامي، شِتات الغايات والأهداف. عاجزة عن البرمجة والسَير وفق البرنامج الموضوع. قد نضع لأنفسنا برنامجاً رائعاً ولكن لا نُطبِّقه، نفشَل بالتطبيق وفشِلنا مراراً بالتطبيق لأن القدرة على التركيز مفقودة. القدرة على المطالعة المستمرّة مفقودة ولذلك انصح كلّ القرّاء والمعارف أن يجمعوا أفكارَهم ويُركِّزوا أفكارَهم وأن يُطالعوا بعُمق.
المطالعات سطحية، المطالعات سطحية لأنها تُشبه مطالعات الصُحُف والمجلات. يمرُّ المرء على الكتاب مرور الكرام، والمطلوب هو المطالعة بعمقٍ وبعنايةٍ فائقة وبحفظ دقيق بمطالعة الكتب الثمينة، فالكرّاسات لا تُغذّي العمق الروحي والثقافي واللاهوتي. الكتاب الثمين العميق هو الذي يغذّي الإنسان ويصنع منه شخصاً عميقاً ممتلئاً ويصنع من شخصيّته شخصية متّزنةً، رائعةً، بصيرةً. قال بولس الرسول لتيموثاوس “الكتب المقدّسة تصنع الإنسان حكيماً”. والحكمة في الكتاب المقدّس مهمةٌ جدّاً. السلوك الحكيم الرزين والمدروس مهمٌ جدّاً، هو ضدّ السلوك العشوائي الفوضوي الإرتجالي الأعمى. العهد الجديد وآباء الكنيسة وطقوسنا الكَنَسية تصنع من الإنسان كائناً روحياً عميقاً جداً.
يوحنا فم الذهب قال” بعد العنصرة، كل الزمان هو عنصرة ” ولذلك فالزمان بعد العنصرة كلُّه امتلاء من الروح القدس وأسأل الروحَ القُدُسَ أن يملأ قلوبَ المؤمنين ليعبُدوا الثالوث القُدّوس بكلِّ قلوبهم وبكُلِّ ذِهْنِهِم وبكلِّ فِكرِهم.
ونظراً لتقديري لكفاءة الأخت العزيزة مهى عفيش كلَّفتُها الاشتراك معي في هذا الكتاب بعظةٍ ثمينة عن تجلّي ربِّنا يسوع المسيح، فلبَّت الطلب بغبطة.
وإني أشكر الأخت العزيزة كارول كمال عبود التي ضربت على الكومبيوتر عظاتي وتلتها عليَّ. وأشير إلى أن الظهور الإلهي هو موضوع كتاب مطبوع. وما زلت أنتظر ترجمة أطروحة قدس الأب جورج عطية في الصعود الإلهي.
23 ايار 2009
اسبيرو