نشوء الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي الأنطاكي
- يفيدنا التاريخ بأن من سيصبحون لاحقاً أبناء الكنيسة المارونية نشأوا أوّلاً كجماعة من النساك حول مارون القورشيّ، مؤسّس طريقة التنسّك في العراء، وذلك في حيّز بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق. وقد انقطع مارون الناسك إلى قمّة جبل في منطقة القورشيّة من سوريا الفراتية. هناك حوّل هيكلاً وثنيًّا إلى كنيسة، وتمكّن من هداية ذاك الجبل. وعندما توفّي نحو سنة 410، تنازعت جثمانه قرى المحيط حتّى استقرّ في بلدة كثيرة العدد، يعتقد اليوم أنّها براد، حيث شيّدت كنيسة فخمة لإيواء الجثمان. وبفضل إشعاع مارون وتلامذته النساك، تحولت الهياكل الوثنية في الجوار إلى كنائس، وتكوّنت من سكانه الآراميين النواة الأولى لمن سيعرفون باسم “شعب مارون”، نسبة إلى هذا القدّيس. وأحد تلامذة مار مارون هو ابراهيم القورشيّ، أبرز مبشّري جبل لبنان الوثنيّ، العاصي على الدين المسيحيّ حتّى القرن الرابع[1]. وفي الفترة عينها تقريبًا، تحوّلت ناحية من جبة بشرّي إلى المسيحية بعد أن قصد وفد من سكّانها الوثنيّين القدّيس سمعان العاموديّ، السلف المباشر للقدّيس مارون ومتبني طريقة نسكه، ليسألوه أن يقي قراهم شرّ الوحوش الضارية الّتي كانت تفتك بهم. فأجابهم القديس سمعان إلى طلبهم بعد أن قبلوا المعموديّة وأقاموا في جهات كلّ قرية من قراهم أربعة صلبان.
- كان لأبناء مارون ومستلهميه دوراً كبيراً في إلغاء الوثنيّة من سوريّا ولبنان وهداية شعبيهما، الآرامي والكنعانيّ، إلى المسيحية. وتعاظم دورهم على نحو حاسم عند إنشاء ما عرف بجماعة “بيت مارون” الرهبانيّة، وذلك في دير بُني لهم عام 452 على اسم مار مارون، بأمر من الأمبراطور مرقيانوس، لكي يتكرسوا للدفاع عن العقيدة الخريستولوجيّة الخلقيدونيّة في النطاق البطريركيّ الأنطاكيّ[2]. وهذه العقيدة هي القائلة بوجود طبيعتين متمايزتين ومتكاملتين في شخص المسيح، إلهية وإنسانية، وقد أقرت في مجمع خلقيدونية المسكوني عام 451، حيث وجدت في البابا لاوون الكبير محاميها الأكبر. وقد اتّخذ مرقيانوس مبادرته ببناء دير مار مارون بُعَيد المجمع الخلقيدوني بمسعى من ثيودوريطس، أسقف قورش، أشهر الأقطاب الأحياء في المدرسة اللاهوتيّة الأنطاكيّة، الشهيرة آنذاك، وأحد المهندسين الأساسيّين للخريستولوجيا الخلقيدونيّة[3].
- في القرن السادس، لعب رهبان “بيت مارون” دورًا طليعيًا في النزاعات العقيديّة القائمة في البطريركية الأنطاكية حول الخرستولوجيا الخلقيدونيّة ، فناصروا الموقف الخلقيدونيّ التوفيقي للبابوات الرومان ضد المبدأ المونوفيزي القائل بالطبيعة الواحدة، أي الإلهية، في المسيح. وقد قاسوا، لأجل ذلك، اضطهادات من الخصوم فصّلوا شيئاً منها في عريضة إلى البابا هرميزدا خريف العام 517. وما زالت هذه العريضة محفوظة حتّى اليوم، مع ردّ البابا عليها في السنة التالية. وحضر “بولس مندوب دير الطوباويّ مارون” سينودساً مجمعياً في القسطنطينية عام 536 بهدف تثبيت الخلقيدونيّة في الشرق. وفي هذه الفترة أيضًا، رمّم الامبراطور يوستنيانوس “أسوار دير مار مارون الّذي في ضواحي أفامية”، كما يفيدنا بروكوبيوس المؤرّخ، معاصر يوستنياتيوس[4].
- ويبرز دور رهبان بيت مارون مرة أخرى في الحفاظ على العقيدة الخليقيدونيّة عندما جرى بينهم وبين المونوفيزيين، حوالي العام 592، جدال لاهوتي مكتوب حفظه لنا التاريخ. في هذه المساجلة، يصف المونوفيزيون خصومهم بأنهم “سرع الجفنة الخلقيدونيّة، وفرع جرثومة لاوون، وأصل الجرثومة المرة الّتي انتجها ثيودوريطس”. وهذا الاستشهاد من الخصم المجادل يفيد بجلاء وفاء رهبان بيت مارون للتعليم الخلقيدوني، وللشركة الإيمانيّة مع كرسي بطرس، وللمدرسة اللاهوتية الأنطاكية.
- بقي رهبان بيت مارون على وفائهم لتلك الأركان الثلاثة حتى بعد ظهور الإسلام وإحتلال جيوشه للنطاق البطريركيّ الأنطاكي. وحفظ لنا التاريخ مناظرة أخرى بين رهبان بيت مارون والمونوفيزيين أمام معاوية، والي دمشق، عام 659. لكنه حفظ لنا خصوصًا مقاومة مارونيّة – مردائيّة[5] لجيش الدولة الإسلاميّة الفتيّة من أعالي الجبل اللبناني. وقد أجبرت هذه المقاومة الشديدة الخليفة معاوية على عقد صلح مع الأمبراطور قسطنطين اللحياني عام 678 يدفع العرب بموجبه ذهبًا وأسرى وجيادًا للروم على مدى ثلاثين سنة كي يلجموا إغارات المقاومين على الجيوش العربيّة. لكن السطوة المارونيّة ـ المردائية انهارت إثر صلح آخر وقّع بين الأمبراطور يوستنيانيوس الثاني، الملقب بالأخرم، والخليفة عبد الملك بن مروان عام 689، وسحب الأمبراطور الأخرم بموجبه مقاتلي المردة، المؤتمرين بامرته، من النطاق الأنطاكي. وكان لهذا التراجع الأمبراطوري المفاجئ أمَرّ الوقع على أبناء مارون، المتحلقين حول رهبانهم وديرهم الأساس في سوريا الثانيّة، فقرّروا النزوح شيئًا فشيئًا عن بيوتهم وحقولهم في سوريا الثانية، حيث مركز ثقلهم، إلى جبال لبنان، حيث إخوة لهم من السكان الأصليين المقاومين، الذين هداهم تلاميذ مارون إلى المسيحية. وقد راموا من هذا النزوح الابتعاد عن السلطة الإسلاميّة ـ العربيّة بغية المحافظة على حرية ممارسة إيمانهم المسيحي، وعن السلطة الزمنية البيزنطية، التي خذلتهم، وعن السريان المونوفيزيين، إخوتهم في اللغة والإثنية والليتورجيا وخصومهم في العقيدة، مخافة تجدّد الصدامات التاريخيّة معهم في ظل حكم جديد محبذ لكل من يخاصم البيزنطيين في القوميّة والعقيدة الإيمانيّة. وفي هذه الفترة العصيبة بالذات، الّتي صادفت أيضاً غيابًا لبطريرك خلقيدوني أنطاكيّ مقيم في البطريركية منذ سنة 609، بل وشغورًا كاملاً لهذا الكرسيّ ابتداء من العام 702، تنادى السريان الخلقيدونيون لرسم بطريرك أنطاكيّ خلقيدوني عليهم من بين رهبان دير مارون، فقامت هييررخيّة كنسيّة بطريركيّة عُرفت باسم الكنيسة السريانية الأنطاكية المارونية.
- لم يستأذن السريان الخلقيدونيون أية سلطة زمنية، لا الخليفة ولا الأمبراطور، للقيام بمبادرتهم الكنسية الجسورة هذه. ولا توجد وثائق معاصرة لهذا الحدث الجلل تعيننا على معرفة جازمة لتاريخ قيام البطريركية السريانية الأنطاكية المارونية أو لاسم بطريركها الأول. لكنّ التقليد الماروني يعتمد سنة 685 تاريخًا لقيام الكنيسة المارونية، والقديس يوحنا مارون بطريركًا أول على هذه الكنيسة.
- بقيت الكنيسة المارونية، لفترة، البطريركية الخلقيدونية الوحيدة القائمة في النطاق الأنطاكي. لكن الخلقيدونيين الروميين البيزنطيين في النطاق الانطاكي لم يتماهوا بها. وحدهم سريان أنطاكية الخلقيدونيين وجدوا ضالتهم فيها. وحاول الخلقيدونيون الروميون، بعدما أذن لهم الخليفة بإقامة بطريرك عليهم ابتداء من العام 742، أن يسعوا الى إعادة اللحمة بالقوة الى العائلة الخلقيدونية الأنطاكية. فاستصدر بطريركهم ثيوفيلوس بن قنبرة، الجالس على كرسيه عام 744، أمرًا من الخليفة الأموي مروان الثاني بإخضاع السريان الخلقيدونيين، أي الموارنة، لسلطة بطريركيته بالقوة. لكن حملته العسكرية، التي جرّدها لهذه الغاية على دير مارون، باءت بالفشل. وهكذا تكرّس الانقسام النهائي للعائلة الأنطاكية الخلقيدونية الى بطريركيتين: الرومية، التي عرفت أيضاً بالملكانية، والسريانية المارونية.
- رغم تأسيس البطريركية المارونية ونزوح الموارنة المتعاظم الى لبنان، بقي لهذه الكنيسة وجود محترم في النطاق الأنطاكي خارج حدود الجبل اللبناني، من حماة الى أنطاكية فحلب فمنبج فالرها. فالعالم الماروني ثيوفيلوس بن توما (695 ـ 785) كان من مواليد الرها، على ما يظنّ[6]. وكنيسة حلب الكبرى كانت، حتى سنة 728، كرسي الأسقف الماروني في المدينة. ودير مار مارون نفسه، الذي كان المصدر الأول للرهبان والأساقفة والبطاركة الموارنة، لن يهدم الا في مطلع القرن العاشر. لكن الزمن سيأتي تدريجيًا على الوجود الماروني الكثيف في سوريا، ما عدا في مدينة حلب وجوارها.
- ثمّ يصمت التاريخ عن الموارنة صمتًا شبه مطبق سحابة خمسة قرون قبل ان يستعيدهم الى دائرة الضوء مع وصول الصليببين الى لبنان في طريقهم الى الأراضي المقدسة. فهؤلاء سيفاجَؤون، في هذه البقعة من الشرق، بوجود شعب مسيحي ماروني شديد المراس، معتصم في الجبال، مندرج في كنيسة بطريركية ديرية المنشأ، أنطاكية التراث، سريانية الطقوس، خلقيدونية العقيدة. وسيكتشفون بعد حين أنّ هذه الكنيسة هي أيضًا كاثوليكية الانتماء، لأنها تجهل في تاريخها أي انفصام بين أنطاكية وروما، البطريركيتين اللتين أسسهما بطرس هامة الرسل. ولن يلمسوا من هذه الكنيسة الصغيرة أي حرج في الاقرار بمركزية المرجعية الرومانية ولا في الامتثال لقوانين المجامع المسكونية السابقة، لا سيّما المجمع السادس[7]. وقد لبثت الكنيسة المارونية على انسجامها العقائدي مع الخط الخلقيدوني، وعلى انتمائها إلى العائلة الكاثوليكية بعد انقسام بطريركيتيي روما والقسطنطينية الخلقيدونيتين الى كنيستين، كاثوليكية وأرثوذكسية، وعلى أمانتها لمشرقيتها الحضارية، وسريانيتها الثقافية، وأنطاكيتها الروحية.
6. يعتقد أن سكان ذاك الجبل الكنعانيّ قد استبدلوا اسم نهر أدونيس بنهر ابراهيم امتنانًا لمبشّرهم.
7. بني هذا الدير في محلة من منطقة الأفامية من سوريا الثانية، وقد تكون هذه المحلّة هي التي تدعى اليوم الدير الشرقي في سوريا الحالية.
8. ترهّب ثيودوريطس لفترة في أحد أديار أفامية. وهو الذي ترك لنا الأثر الوحيد المكتوب عن حياة القدّيس مارون وتلامذته.
9. كان الدير آنذاك في حاجة إلى سور ضخم، وذلك لوقوعه في مكان قريب من مضارب البدو وتعرضه لغزواتهم. وستكون هذه الغزوات أحد أسباب خراب الدير في القرن العاشر، بحسب المؤرخ العربي المسعودي.
10. نسبة إلى المردة، أو خيل الروم، كما أسماهم المؤرخ العربي البلاذري (+892).
11. كان ثيوفيلوس بن توما مستشار اً لدى الخليفة الأموي مروان الثاني، ومنجّماً لدى الخليفتين العباسيين المنصور والمهدي، وناقل الالياذة والاوديسيه من اليونانية الى السريانية، ومُدخل الحركات الى الكتابة السريانية، وواضع المصنفات المرجعية في علوم الأحياء والنبات ودوران الكواكب، وصاحب أول تاريخ للكنيسة المارونية ما زال للأسف مفقودًا.
12. خُيّل لروما أن قول الموارنة حتى ذلك الحين بالمشيئة الواحدة، بمعنى التآلف الدائم بين المشيئتين الإلهية والإنسانية في شخص يسوع المسيح، وهو تعمّق عقيدي قالت به المدرسة اللاهوتية الأنطاكية، قد يفهم منه خطأ أنه قول بمشيئة وحيدة في المسيح، هي المشيئة الإلهية حصرًا، وهو ما أدانه المجمع السادس.