لم يذكر كتّاب الأناجيل تاريخ ميلاد المسيح، ونحن لا نملك أية مصادر أخرى تفيدنا في هذا الصدد. وأما قصة الميلاد التي نقرأها في إنجيل لوقا فهي تحمل في ذكرها للرعاة الذين كانوا ينامون في البراري إشارة تمكننا على الأقل من استنتاج الفصل الذي يحدد فيه كاتب هذه القصة مولد يسوع. ففي فلسطين نجد الرعاة في البراري بين شهري آذار-نيسان و شهر تشرين الثاني. نجد بالتالي أمامنا الخيارات التالية: فصل الربيع، أو الصيف، أو الخريف. وأما التاريخ فلا نجد له تحديداً في أي من القصص الواردة في الأناجيل.
وفي غياب دلالات أكثر تحديداً، حاول بعض المسيحيين في القديم استنتاج تاريخ ميلاد المسيح من خلال بعض التكهنات الأكثر اختلافاً التي لم تكن ذات قيمة تاريخية، ولم تلقَ من الكنيسة اعترافاً رسمياً بصحتها. لقد كانت مجرّد محاولات فردية لعمليات حساب، تختلف الواحدة عن الأخرى أشد اختلاف. سأكتفي بذكر بعض المحاولات، على سبيل المثال:
في حساب فصحي يعود إلى العام 243 تم تحديد نهار مولد يسوع المسيح في 28 آذار. فما سبب اختيار هذا التاريخ بالذات؟ ينطلق الكاتب من سفر التكوين الذي يُذكَر فيه أن الله، خلال الخلق، قام بفصل النور عن الظلمة. ويضيف الكاتب أن النور والظلمة يشكلان بالتالي جزئيين متساويين.
ويستنتج أن الخلق قد تم في تاريخ يتساوى فيه طول النهار مع الليل. و يحدد التقويم الروماني اعتدال الربيع في نهار 25 آذار، مما يعني أن هذا هو تاريخ الخلق. كما يذكر سفر التكوين أن الله خلق الشمس في اليوم الرابع، أي في 28 آذار وفي المعتقد المسيحي حسب ملاخي (3: 4)، المسيح هو “شمس الحق”. وبالتالي فإن الثامن والعشرين من آذار هو تاريخ مجيء المسيح إلى العالم.
كما أن مصادراً أخرى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى، على غرار كتاب اكليمنضس المنحول، تحدد بوضوح ميلاد المسيح في فصل الربيع. ولكن ليس ثمّة توافق عام حول هذه النقطة. فالبعض يرتكزون إلى كافة أنواع الحسابات و الأفكار لتحديد ميلاد يسوع في 19 نيسان، وآخرون في 2. أيار، أو حتى في 2 نيسان. وأما الكفّة فترجح إلى فصل الربيع لعدّة أسباب، من جهة لأن الخلق قد تم تحديده في هذا الفصل، ومن جهة أخرى لأن تاريخ موت يسوع يقع في الربيع، والجميع كان يعتقد طوعاً أن عدد السنوات التي عاشها المسيح يجب أن تشكل رقماً بلا كسور.
وحاول الغنوصيون ان يعرفوا اليوم الذي ولد فيه المسيح . فاختار البعض 14 نيسان، بينما اعرض البعض واختاروا 2. وقد ذكر القديس اكليمنضس الاسكندري أدلة كل فريق، ولم يذكر هو ( أي اكليمنضس ) اليوم الذي اختارته الكنيسة لسبب واحد: ان عيد الميلاد – في زمن اكليمنضس الاسكندري، لم يكن ضمن الأعياد .( العظة الأولى، 21)
لكن من الملاحظ هنا ان الغنوصيين اختاروا فصل الربيع ( آذار ونيسان ) اعتقادا منهم ان هذا الفصل هو انسب الفصول لبداية الخلق، انه بداية العالم، وإذا كان المسيح قد مات في الربيع ( شهر نيسان العبري، فان حياته لا بد وأنها بدأت في الربيع ) .
وأما الحالات النادرة التي كانت فيها التكهنات تؤدي إلى تحديد تاريخ الميلاد في فصل الشتاء، كانت تنطلق في الحسابات من فصل الربيع: إذ كان يتمّ تحديد تاريخ الحبل في الربيع، والميلاد بعد تسعة أشهر: أي في فصل الشتاء. وهكذا في إحدى الحالات تم ذكر تاريخ 25 كانون الأول تبعاً لتاريخ 25 آذار الذي يسبقه بتسعة أشهر؛ وفي هذه الحالة كان تاريخ 25 آذار يعتبر نهار الخلق والحبل وموت السيد في الوقت نفسه. ولكن، حتى المنتصف الأول من القرن الرابع، لم تُعطى لهذا الحساب أهمية أكبر من تلك التي أعطيت للحسابات والتواريخ الأخرى التي ذكرناها.
كما أن الاعتبارات نفسها في الحساب هي التي أدت إلى استنتاج تاريخ 6 كانون الثاني (أي بعد تسعة أشهر من تاريخ 6 نيسان الذي اعتُبِر تاريخ الحبل والموت).
يثبت الاسترسال في هذه التخمينات والتكهنات الفكرية دون رقيب أنّ الكنيسة في تلك الحقبة لم تعطِ أهمية كبرى ومبدئية لمسألة معرفة التاريخ الذي ولد فيه يسوع. وقد سخر إكليمنضس الاسكندري ، في نهاية القرن الثاني، من كل الذين حاولوا استنتاج تاريخ ميلاد المسيح استناداً إلى طرقٍ مماثلة .
2 – علاقة بين عيد الميلاد وعيد العماد:
خلال القرون الثلاث الأولىات سادت حرية فردية كبرى تقابلها لامبالاة رسمية للكنيسة تجاه مسألة تحديد تاريخ ميلاد يسوع. يظهر هذا الجهل لتاريخ الميلاد الصحيح أن المسألة لا تتعلق بالتاريخ بل بفكر لاهوتيّ أنتج الميول الأولى للاحتفال بظهور يسوع الأول على الأرض. وستظهر هذه الدراسة لاحقاً ما إذا كان لهذا التفكير اللاهوتي الأول صادر عن احتفال للوثنيين، أم أنه ينتج عن اعتبارات ومقتضيات مسيحيّة؛ وما إذا كانت المقدّمات المبنية إلى حد كبير على العيد الوثني لم تؤثر إلا بشكل ثانوي في اختيار الكنيسة لتاريخ الميلاد.
في الواقع، لم يكتفِ المسيحيون في الأيام الأولى بتقبل جهلهم لتاريخ ميلاد يسوع المسيح، بل إنهم لم يشعروا كذلك بضرورة الاحتفال بمجيء المسيح إلى العالم. فلقد اعتبرت الجماعات الأولى تجسد المسيح أقل أهمية من موته وقيامته.
وفي الأصل اعتبرت كل “أيام السيد”، أي الآحاد، إشارة إلى قيامة السيد المسيح، وبالتالي، إضافة إلى هذه الأيام، ثمة عيد واحد كان المسيحيون يحتفلون به وهو عيد الفصح، أي ذكرى موت المسيح وقيامته، وتصحب هذا العيد سلسلة من الأعياد المرتبطة به بشكل وثيق.
كما أن لدى المسيحيين الأوائل كان يتم الاحتفال بأعياد القديسين والشهداء في تاريخ موتهم وليس مولدهم. وفي أوائل القرن الثالث احتج أوريجانوس رسمياً على عادة الاحتفال بذكرى المولد. فقد اعتبره تقليداً وثنيّاً.
وقد جاء في الإنجيل أن الوثنيين ( مثلا : ميلاد ديونيسيوس في دلفي وأعياد اله الزمان ) على غرار الفرعون وهيرودوس هم فقط الذين كانوا يحتفلون بأعياد ميلاده. وكان اكليمنضس الاسكندري يسخر من الذين يتعاطون حساب ميلاد الرب أو موته .
العلامة اوريجانس يعترض على الاحتفال بأعياد الميلاد نظرا لأنها عادة وثنية ويقول: ان اثنين في الكتاب المقدس احتفلا بعيدي ميلادهما هما: الأول فرعون، وقطع رأس الخباز والثاني هيرودس وقطع فيه رأس يوحنا المعمدان، فمن عنده تقوى رسولية لا يحتفل بيوم ميلاده لأنه في هذا يشبه بالطغاة والوثنيين.
غير أن هذا الموقف غير مناسب في ما يتعلق بالمسيح. فالمسيح هو في الواقع أكثر من رسول أو شهيد بما أنه مخلص العالم. وبالرغم من أن العمل الخلاصي النهائي لم يتم إلا من خلال موته، غير أن ظهوره في العالم يجب أن يُعتبر حدث خلاصيّ من الدرجة الأولى.
فضمن هذا الإطار أوضح متّى ولوقا في قصتيهما حدث ميلاد المسيح، كما عبَّر إنجيل يوحنا عن هذا السرّ بطريقته الخاصة. إن الفكر اللاهوتي الذي شدد على شخص المسيح وإنجازه، والذي انطلق من مبدأ الإيمان بالسيد المصلوب والممجَّد، عاد إلى نقطة تجسد المسيح، فبدأت هذه المسألة تظهر بوضوح متخذة حيزاً مهماً في التأمل الإيماني.
كان مسيحيو الشرق أول من تأمل في سرّ ظهور الله في العالم على شكل إنسان. لكن طرقاً عديدة برزت لعرض هذا الحدث. فقد اعتبر البعض أن طبيعة المسيح الإلهية ظهرت على الأرض في شخص يسوع فقط عند معموديته.
ذلك كان المفهوم الهرطوقي الذي اعتبر أن المسيح ذو الطبيعة الإلهية لم يتوحد كلياً مع الطبيعة الإنسانية، لكنه اتحد بشكل مؤقت مع شخص يسوع وذلك فقط خلال المعمودية عندما أعلن صوت الله: “أنت هو ابني الحبيب”.
ولكن في المقابل، حسب المفهوم الكنسي الأرثوذكسي تحقق الظهور الإلهي الفعلي في شخص يسوع التاريخي، أي أن كلمة الله ظهرت في العالم لحظة الولادة.
انطلاقاً من هذه المفاهيم المسيحية، نلمس البوادر الأولى لعيد الميلاد المسيحي. وفي الواقع، نعرف من خلال إكليمنضس الاسكندري أن تلاميذ باسيليذيس الغنوصي (Basilide)، الذي عاش في الاسكندرية في القرن الثاني، كانوا يحتفلون بمعمودية المسيح في العاشر أو السادس من كانون الثاني. وحتى الآن، هذا هو المصدر الأول المرجّح لعيد الميلاد.
فلقد مثّل باسيليذيس وتلاميذه هذا المفهوم الهرطوقيّ الذي اعتبر أن المسيح الإله لم يظهر على الأرض إلا عند معمودية يسوع. وقد اتخذت معمودية يسوع تسمية “Epiphanie” في اللغة الفرنسية من اللفظة اليونانية “epipahneia” التي تعني “الظهور الإلهي”.
ولقد كان تلاميذ باسيليذيس يحتفلون بسر ظهور المسيح في العالم الأرضي في أوائل شهر كانون الثاني. وفي هذه المناسبات لم يأتوا على مولد المسيح.
ففي تفكيرهم ليس لهذه المسألة دوراً في الخلاص، إذ اعتقد تلاميذ باسيليذيس أن الظهور الإلهي الفاصل يصادف مع معمودية يسوع.
فما الذي دفعهم للاحتفال بالمعمودية في الأيام الأولى من كانون الثاني، وبالتحديد في السادس من كانون الثاني، مع أن الدلالات المتعلقة بتاريخ المعمودية في الأناجيل هي أقل حتى من تلك المتعلقة بالميلاد؟ .
لم نخطئ بالتأكيد حين ذكرنا أن الوثنيين كانوا يحتفلون بعيد ديونيسوس (Dionysos)، وهو احتفال بطول ساعات النهار، وفي هذا التاريخ أيضاً كان الاسكندرانيون يحتفلون بولادة “إيون” (Eon) من العذراء “كوريه” (Coré)، وكان هذا النهار مخصصاً لأوزيريس.
ويقال أن في ليل السادس من كانون الثاني تتلقى مياه النيل قدرة عجائبية خاصة. وهذا ما يفسر اختيار تلاميذ باسيليذيس لهذا التاريخ بالذات للاحتفال بمعمودية المسيح، وذلك ليعلنوا بوجه الوثنيين أن الكائن الإلهي الحقيقي الذي ظهر على الأرض هو المسيح الذي دخل فجأة العالم الأرضي لمّا كان في مياه الأردن، حين أعلن الصوت قائلاً: “أنت هو ابني الحبيب”.
وهنا تكمل العناصر المطلوبة ليحل الاحتفال محل العيد القديم، فاليوم صار لاحتفال بالمسيح – والإله هو المسيح – ثم القوة الإلهية في المياه تجيء من مناسبة معمودية المسيح في الأردن وكان الغنوصيون يستبدلون الأردن بالنيل ويقيمون صلاة طوال ليلة الخامس من كانون الثاني على حد رواية القديس اكليمنضس الاسكندري، لكن لا نعرف إذا كانت هذه الصلوات لتقديس مياه النيل أم لا، لكن من وصف القديس ابيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص لعيد ديونسيوس يفهم إن هناك صلوات وتعاويذ كانت تقال على مياه النيل.
فما القاسم المشترك بين هذا العيد والميلاد؟ اكتسب عيد المعموديّة هذا، الذي احتفل به تلاميذ باسيليذيس، مكانة في كنيسة الشرق الكبرى التي أخذت أيضاً تقاليداً أخرى عن الهرطوقيين أنفسهم الذين حاربتهم.
لقد رأينا أنه لم يكن يتم الاحتفال بمعمودية المسيح إلا ضمن إطار الظهور الإلهي، ال “Epiphanie”. أي أن مفهوم الظهور الإلهي كان الأبرز في هذا الاحتفال. وأما اليوم فإن الكنيسة، بعيداً عن الأوساط الهرطوقية، إذ تتبع النص الإنجيلي المتعلق بالميلاد، تعتبر أن الظهور الإلهي للمسيح لم يتم فقط في المعمودية بل في ميلاد يسوع.
وربما كان الغنوصيّون أنفسهم يحتفلون حدثين في السادس من كانون الثاني: المعمودية والميلاد. إلا أن المناقشات التي تناولت مسألة الصفة الإلهية للمسيح في بداية القرن الرابع، أبرزت ضرورة اعتبار تاريخ ميلاد المسيح تاريخاً “لظهوره”.
وفي جميع الأحوال نستنتج أن الكنيسة بدأت، منذ المنتصف الأول من القرن الرابع، بالاحتفال بالمعمودية في السادس من كانون الثاني، و فيه جمعت ذكرى المعمودية وميلاد المسيح معاً. لم يتم اقتطاع أي من ظواهر الاحتفال الأصلي، بل أضيف إليه ببساطة الاحتفال بعيد الميلاد. من حيث الشكل، تمّ تقسيم هذا الاحتفال إلى جزئين. فقد تم تخصيص الخامس من كانون الثاني للاحتفال بميلاد المسيح، ونهار السادس من كانون الثاني للاحتفال بمعموديته.
نستنتج بالتالي أنه قبل اعتماد تاريخ الخامس والعشرين من كانون الأول، كان يتم الاحتفال بالذكرى السعيدة لميلاد المسيح في الخامس من كانون الثاني والسادس من كانون الثاني كان لمعمودية.والدليل يأتي من ورقة بردى تعود إلى بداية القرن الرابع تم العثور عليها في مصر. تحتوي هذه الورقة على عبارات ليتورجية كانت ترتلها جوقة كنسيّة على طريقة المردّ خلال قراءات الكاهن .
لقد أفادتنا هذه الورقة بشكل كبير، كما أنها حملت العديد من بصمات الأصابع.
يظهر على وجه الورقة الثاني ملاحظة تدل بوضوح على أنها مخصصة للاحتفال بالمعمودية بين الخامس والسادس من كانون الثاني؛ خلالهما كانت تتم مراسم الاحتفال بالمعمودية في مياه نهر الأردن كما تتناول هذه العبارات، في جزء منها، موضوع ميلاد المسيح.
تحتوي ورقة البردى هذه على أقدم ليتورجيا ميلاديّة متوفّرة لدينا، وتضمّ أيضاً الاحتفال بعيد الميلاد في ليل الخامس والسادس من كانون الثاني. ولدى قراءة نصوص الإنجيل عن مولد المسيح في بيت لحم وهروبه إلى مصر والعودة إلى الناصرة، يجيب الكورس مرتلاً باللغة اليونانية ترتيلة مذكورة على ورقة البردى، ترجمتها هي التالية:
وُلد في بيت لحم
نشأ في الناصرة
وعاش في الجليل.
وبينما يقرأ الكاهن من إنجيل متّى قصّة المجوس، تجيب الجوقة:
رأينا إشارة من السماء
عن نجمة الضياء
تلي بعدها قراءة قصّة الميلاد من إنجيل لوقا 2، فتجيب الجوقة:
إن الرعيان الذين يرعون قطعانهم في البراري انذهلوا، وخرّوا على أقدامهم ساجدين ومنشدين: المجد للآب
هليلوييا
المجد للإبن والروح القدس،
هليلوييا، هليلوييا، هليلوييا.
هكذا كان المسيحيون في بداية القرن الرابع يحتفلون بعيد ميلاد المسيح بين الخامس والسادس من كانون الثاني.
ضمّ عيد الظهور الإلهي، كما كان يحتفل به المسيحيون الأوائل في البادئ في الإسكندرية، عناصر أخرى إلى جانب عيد الميلاد والمعمودية. فلقد احتفل هؤلاء المسيحيون، بالإضافة إلى ظهور يسوع من خلال ميلاده وظهوره أمام العلن خلال المعمودية، بظهور المسيح من خلال عجائبه: تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا (حيث يظهر الدور الذي لعبه اعتقاد الوثنيين قديماً بأن للنيل قدرة عجائبية)، و في عجيبة الخبز.
وصف الأب افرام السوري عيد السادس من كانون الثاني بأنه الأسمى بين الأعياد المسيحية، وقد ذكر أن في هذا اليوم تعتلي الأكاليل كلّ بيت. ويصف الأب افرام الفرحة الكبرى التي تسود في الكنيسة بأكملها في هذا اليوم ، ويقول: ( أن الجدران نفسها تظهر متلألئة بالفرح في هذا اليوم، والأطفال لا يتفوّهوا إلا بتعابير الحبور).
ومن ثم يجود خاصة في وصف هذا الاحتفال الليليّ. فيهتف قائلاً: ها قد حلّ الليل، الليل الذي يمنح السلام للعالم، فمن عساه ينام في هذه الليلة بينما يسهر العالم بأكمله!” من ثم يبدأ الاحتفال بالميلاد، بعبادة وسجود الرعاة وظهور النجمة. ويُخصَّص الصباح التالي لذكر عبادة المجوس واعتماد المسيح في نهر الأردن. ويسعى افرام في ترتيلة نظمها بنفسه إلى جمع كافّة عناصر عيد الظهور الإلهي:
إن الخليقة كلها مع
المجوس و النجمة تعلن:
“أنظروا هذا هو ابن الملك”
السماوات تنفتح
ومياه الأردن تزبد
وتظهر الحمامة:
“هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”
يظهر هنا جليّاً أن المعمودية والميلاد يرتبطان بشكل وثيق في المنظور المشترك ” للظهور الإلهي”.
تميَّز الاحتفال بعيد الظهور الإلهي في فلسطين قديماً ببهاء خاص. وفي هذا الصدد، نذكر الحاجّة “إثيريّا” (Ethćrie) التي أمضت ثلاث سنوات في فلسطين .
لم تجد “إثيريّا” الكلمات الكافية لوصف عظمة هذا الاحتفال و جمال الأناشيد التي كان الحشد الكبير يرددها. وتحكي كيف يتوجه الناس مع الأسقف في موكب إلى بيت لحم حيث يقيمون المراسم الليلية في المغارة التي يُعتقَد أن المسيح قد ولد فيها. وقبل طلوع الفجر يتجه الموكب بأكمله مع الأسقف إلى القدس مرتلين أناشيد تمجيد المسيح الذي أتى إلى الأرض. وقبل بزوغ فجر السادس من كانون الثاني يصلون إلى القدس، ويتوجهون إلى كنيسة القيامة التي ينيرها من الداخل بريق مذهل لآلاف الشموع. ينشد الجمع المزامير ويتلو الكاهن الصلوات، ومن ثم يخرج الجميع ليرتاحوا لبضع ساعات.
وقرابة الظهيرة يعود الجميع مرة أخرى إلى كنيسة القيامة. وعند الظهيرة ينتهي الجزء الأول من الاحتفال، وقرابة المساء يبدأ الجزء الثاني من الاحتفال، في جو من الروعة المتجدّدة.
في هذه القصص الوصفية الثلاث يلعب ذكر النور دوراً مهماً كما يتخذ معنى رمزيّاً. ففي العهد الجديد يعتبر ظهور المسيح في العالم كالنور المنبثق في الظلمة. تبرز هنا دون شك الصلة في اختيار تاريخ 6 كانون الثاني، حيث كان الوثنيون قديماً يحتفلون باليوم الذي يطول فيه النهار على أنه عيد مولد “إيون”. ولكن لا ينطلق الاحتفال المسيحي من هنا فحسب فإن صورة النور المتمثل بالمسيح الذي يبدد الظلمات قديمة كقدم المسيحية نفسها، والعهد الجديد مليء بالدلالات التي تُظهر هذه الصورة.
لقد تعمدت إعادة رسمٍ مفصلٍ لمراحل الاحتفال التي اتّبعتها الكنيسة القديمة في عيد الظهور الإلهي بين الخامس والسادس من كانون الثاني، وذلك بهدف إظهار أن كافّة الأفكار المسيحية التي تتمحور حول عيد الميلاد كانت موجودة في الأصل في كنيسة القديمة على شكل ليتورجيّ.
لا يبدو صحيحاً أن نذكر عيد الميلاد الذي احتُفل به فقط في تاريخ 25 كانون الأول. فإن واقع الاحتفال بعيد الميلاد ضمن عيد الظهور الإلهي وربطه في الوقت نفسه مع عيد للمجوس والمعمودية وعرس قانا، لا يغيّر في حقيقة أن كافة الأفكار المسيحية المتمحورة حول الميلاد تجد في هذا العيد التعبير الرمزي والليتورجيّ لها، وأن الفصل بين عيد الميلاد والظهور الإلهي لم يؤدّي إلى استحداث أية فكرة جديدة.
كانت معرفة ما إذا كان المسيح قد وُلد حقاً في 6 كانون الثاني تشكّل مسألة ثانوية. فلم يتساءل المسيحيون آنذاك ما إذا كانت كافة الأحداث التي احتفلوا بها في آن معاً قد وقعت حقاً في 6 كانون الثاني. فلقد كان العنصر الأساسي الذي احتلّ الأهمية الكبرى في عيد الظهور الإلهي هو المعاني اللاهوتية لا التاريخ. ولهذا السبب بالذات كان من السهل جداً تغيير تاريخ عيد الميلاد في القرن الرابع. ونصل هنا إلى مسألة عيد الخامس والعشرين من كانون الأول.
3 – انفصال عيد الميلاد عن عيد العماد:
نتساءل في أي وقت ولأية أسباب تم فصل عيد الميلاد عن الاحتفال بالظهور الإلهي، وكيف تم تعيين العيد في تاريخ محدد، وهو تاريخ 25 كانون الأول؟ لم يتوصل العلماء حتى الآن إلى اتفاق تام حول هذه المسألة الزمنية. وتبعاً للنظرية الأقرب إلى المنطق، تم فصل العيدين في روما بين عامي 325 و 354 أي في وقت كان الاحتفال بعيد الظهور قد ترسخ في الشرق كما في الغرب وفي روما.
أما تاريخ 25 كانون الأول فاعتمد رسمياً في روما منذ( عام 336) كتاريخ ميلاد المسيح، ويُعتقد أنه كان يتم الاحتفال في هذا التاريخ قبلاً، أي منذ عهد قسطنطين الكبير . ومن المحتمل أن المسيحيين في روما كانوا في البدء ما زالوا يحتفلون بعيد الظهور الإلهي بشكله الأساسي بينما بدأ العيد الجديد يكتسب مكانة في الاحتفالات المسيحية.
فما هي الآن الأسباب التي دفعت إلى الفصل بين عيد الظهور الإلهي وعيد الميلاد وانتقال الاحتفال بهذا الأخير إلى تاريخ 25 كانون الأول. من المهم جداً الإشارة هنا إلى عدم تدخل العملية الحسابية التي تحدد ميلاد المسيح في هذا التاريخ، وهي عملية نصادفها مرة واحدة من بين حسابات عديدة أخرى لتواريخ مختلفة. بل بالعكس، فالحافز في عملية الفصل هنا هو أولاً التطور العقائدي لمسألة الخريستولوجيا الذي برز في القرن الرابع، وثانياً واقع أن الوثنيين كانوا يعتبرون تاريخ 25 كانون الأول يوماً بالغ الأهمية يقيمون فيه احتفالات كبرى لتكريم الشمس، وفي ما يتعلق بالنقطة الأولى، تجدر الإشارة إلى ما يلي: خلال المجمع المسكوني في نيقيه الذي عُقد عام 325، أدانت الكنيسة رسميّاً المذهب ( الاريوسية: التي انكرت لاهوت الابن وجعل الكلمة حالا محل اللاهوت وبذلك يسوع غير مساو للآب ولا لنا ). إلا ان الكنيسة تمسكت بعقيدتها في ان الله واحد في الجوهر ومثلث في الاقانيم الثلاثة . إذ أقر الآباء المجتمعون في المجمع المسكوني الرابع بان المسيح إله حق وإنسان حق، تام في الألوهة وتام في البشرية، وقالوا:” انه مساو للآب في الألوهة ومساو لنا في البشرية، شبيه بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة… ”
لعبت كنيسة روما دوراً مهماً في اتخاذ القرارات في المجمع. من الواضح، كما رأينا، أن هذه المناقشات أفسحت من جهة المجال أشياع عيد الميلاد بشكل لا يطرح مسألة تحديد التاريخ، بل ينطلق من قرارات عقائدية تم اتخاذها .
لذلك لعبت الهرطقات دورا فعالا في اللاهوت والليتورجيا في الكنيسة الأولى، لولا هرطقة آريوس ما كان لدى الكنيسة قانون الإيمان النيقاوي ولقد لعبت الغنوصية دورا فعالا في تأكيد أهمية عيد الميلاد .
إلا ان اعتقاد الغنوصية الشاذ والخاطىء في تجسد الابن جعل من الضروري ان تؤكد الكنيسة أهمية ضرورة الاحتفال بعيد الميلاد منفصلة عن عيد العماد، كما فعلت عند ظهور البدعة الاريوسية اذا اضطرت الى استخدام لفظة ” الواحد مع الآب في الجوهر ” للقضاء على الاريوسية . هكذا ارتأت الكنيسة الى الفصل ما بين عيد الميلاد وعيد العماد للقضاء على الهرطقات .
– بدعة المظهرية : نفت بان يكون المسيح قد تجسد حقيقة بل ادعّى أصحابها انه اتخذ مظهر جسد أو شبه جسد. ( رعيتي السنة 1996 العدد 1 )
– فاذا كانت هذه الورقة التي تعود الى بداية القرن الرابع تحتوي على عبارات ليتورجية من العيد فلا بد ان العيد نفسه كان يمارس قبل ذلكاي في القرن الثالث .
– ” أقدم نصوص المسيحية ” سلسلة النصوص الليتورجية، ايجيريا يوميات رحلة . تعريب الأب نعمة الله الحلو ، الراهب اللبناني . منشورات مجلس الكنائس الشرق الأوسط .
– [19] , تبعاً لتوقيت فيلوكالوس (Chronographie de Filocalus) 354 (Mommsen, Uber den Chronographen vom fabre 354: Abh. D. sächs. Ges. D. Wiss. T) الطبعة الأولى 185.، ص. 631. إن الخلاف الرئيسي بين هـ.أوسينير و ل. دوشبنس متعلّق يهذا النصّ. فاستناداً إليه يؤكّد أوسينير أنه تم الاحتفال بعيد ميلاد المسيح للمرّة الأولى في روما عام 354 لأن كلام القديس أمبروسيوس حول رسامة أخته مارسيلينا (De virg., III, r) يُظهر أن في العام 353 كان ما زال يتم الاحتفال بميلاد المسيح في 6 كانون الثاني. بينما روّج ل. دوشينس في محاولة لنقض نظريّة أوسينير لفكرة أن الطبعة القديمة لتوقيت فيلوكالوس قد تمّت كتابتها قبل شهر تشرين الأول من سنة 336.
– لفت البروفيسور هولزمايستر (U. Holzmeister) انتباهنا إلى الدراسة التي قام بها برونر (G. Brunner: Jahrbuch fur liturgiewissenschaft, 1935 ص. 178)، و ك. بروم (K. Prumm: Stimmen der Zeit,، 1938- 1939، ص. 215)، والتي تبعاً لها قد يعود مصدر الاحتفال بعيد الميلاد في 25 كانون الأول إلى عهد الإمبراطور أورليانوس (27.- 275). يستتند الباحثون إلى عظة أوغسطين ال2.2 (مينيا، 38، 1.33) التي انتقد فيها الدوناتيين لعدم احتفالهم بالعيد في 6 كانون الثاني مع الكنيسة الجامعة. من هنا يرى الناقد-( انبرونر ، و ك. بروم ) امكانية استنتاج أن الدوناتيين مع انفصالهم عن الكنيسة عام 311 كانوا قد اعتادوا الاحتفال بالعيد في 25 كانون الأول، وبالتالي فقد عرفت الكنيسة الكبرى هذا التاريخ وربما قبل ذلك أيضاً مع الإمبراطور أورليانوس الذي عُرف بشغفه للشعائر الشمسيّة. غير أننا لا نستطيع قبول هذه التحاليل التي تضمّ الكثير من الفرضيّات التي يصعب تقصّيها. فالواقع الذي ذكره أوسينير (ص. 15) بأن القديس أوغسطين لام الدوناتيين لعدم احتفالهم بعيد السادس من كانون الثاني لا يعني بالضرورة أنهم كانوا يعيّدون بميلاد المسيح في 25 كانون الأول.