نجـم المشــرق
القديس يوحنا ذهبي الفم
إن هذا النجم لم يكن من جملة النجوم أو بالحري لم يكن نجماً كما يلوح لي إنما هو قوة غير منظورة اتخذت شكلاً منظوراً. فذلك يتضح أولاً من سيره، لأنه ليس من نجم يسير بذلك الإتجاه. فاذا بحثنا عن الشمس والقمر وسائر النجوم نراها كلها تسير من المشرق إلى المغرب بينما نجمنا كان يتجه من الشمال إلى الجنوب. هكذا تقع فلسطين من بلاد فارس.
ثانياً يتضح ذلك من الوقت الذي يظهر فيه فهو لم يضيء في الليل فقط بل كان يضيء أيضاً في رائعة النهار إذ كانت الشمس مشرقة، الشيء الذي لم يكن في وسع أي كوكب حتى القمر نفسه، لأنه وإن فاق جميع الكواكب سطوعاً لا يلبث أن يختبئ ويختفي عند ظهور الشعاع الشمسي. أما نجمنا فبفرط لمعانه الخاص قد طغى على الأشعة الشمسية ظاهراً بأكثر بهاء منها وباعثاً بنور عظيم جداً.
ثالثاً يتضح ذلك من ظهوره واختفائه على التعاقب لأنه كان يظهر لهم في الطريق قائداً إياهم حتى فلسطين، ولما بلغوا أورشليم غاب عنهم حيناً، ثم حينما كانوا على وشك مغادرة المدينة بعد أن تركوا هيرودس وأخبروه بالأسباب التي أتوا من أجلها، أظهر لهم نفسه من جديد مما يدلّ على قوة عاقلة لا على حركة نجم، لأنه لم يكن له سير محدّد. فكان يسير حينما كانوا يسيرون، ويقف حينما كانوا يقفوه مراعياً في كل شيء مقتضيات السفر، كعمود الغمام الذي كان يشير إلى اليهود متى كان يجب على معسكرهم أن يسير ويقف.
رابعاً نعلم ذلك من نوع ظهوره: لم يجعل مكانه في الفلك وإلاّ لما كان استطاع أن يهدي المجوس في الطريق، لكنه كان يفعل ذلك عن كثب. لأنكم تعلمون أنه ليس لنجم عادي أن يهدي إلى مكان قصي فيه كوخ حقير يؤوي جسم صبي صغير، إذ لا يسمح العلو غير المحدود أن يعيّن مكاناً بعينه ضيقاً، ويبيّنه للذين يريدون أن يروه. ويُعرَّف هذا من القمر الذي يفوق جميع الكواكب، والذي يبدو لجميع سكان الأرض أنه قريب. فقل لي كيف يمكن لنجم أن يدلّ على موضع ضيّق سواء أكان كوخاً أم مغارة، إن لم يترك ذلك العلو وينزل إلى أسفل ليقف فوق رأس الصبي؟ وهو الأمر الذي عبّر عنه الإنجيلي بقوله: “فإذا النجم الذي كانوا رأوه، يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق الموضع الذي كان فيه الصبي”.
أنظر ما أكثر الدلالة التي تبين أن هذا النجم لم يكن أحد النجوم الكثيرة، وأنه لم يظهر وفقاً لنظام الولادة كما يدّعي علماء التنجيم.
فلأي سبب ظهر إذن؟ ليكشف قلّة إحساس اليهود ويعدمهم كل وسيلة لتبرير ذواتهم. لأن المسيح إذ جاء ليكفّ نمط الحياة القديم ويدعو المسكونة إلى عبادته والسجود له في كل الأرض لم يلبث أن فتح الباب من البدء للأمم مريداً أن يهذّب اليهود بواسطة الأجانب. ولما كان هذا الشعب يداوم على سماع الأنبياء ولا يعي أقوالهم، أقبل بالبربر من بلادهم القاصية ليبحثوا عن الملك المولود عند اليهود ويعلموا هؤلاء ما لم يصبروا على أخذه من أنبيائهم. حتى إذا أبدوا استعداداً حسناً تكون حجتهم مستندة إلى سبب قوي، وإذا ظلوا على تعنتهم يفقدون كل حجة لتبريرهم، ولا يبقى لهم ما يقولون إذا لم يقبلوا المسيح الذي بشّر به أنبياء كثيرون وهم قد رأوا المجوس يقبلونه ويسجدون له بمجرد رؤية ذلك النجم.
إن ما صنعه الرب نحو نينوى حينما أرسل إليهم يونان، وما سيصنعه هو مع السامرية والكنعانية يصنعه الآن بواسطة المجوس. فلذلك قال: “أهل نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه .. ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه” (مت 12). لأنهم آمنوا استناداً إلى شهادات أقلّ قيمة من الشهادة التي يرفضها أهل هذا الجيل.
قد يقال لماذا جذب الله المجوس بحادث مثل هذا؟ لكن ماذا كان يجب عليه؟ فلو أرسل أنبياء لما احتمل المجوس تعليمهم، ولو بعث بصوت من علُ لصمُّوا آذانهم، ولو أرسل ملاكاً لتحوّلوا عنه. لأجل ذلك إذ ترك الله كل تلك الوسائل دعاهم بطرق يألفونها متنازلاً كل التنازل. فأظهر لهم نجماً عظيماً من طبعه التنقّل لكي يدهشهم بعظمته وجمال منظره ونوع مسيره. وقد نسج بولس على هذا المنوال لما تحدّث إلى اليونانيين عن أحد هياكلهم مستشهداً بشعرائهم (أع 17). كذلك لما قام في اليهود خطيباً جعل الختان والذبائح بدء تعليمه للذين يعيشون تحت الناموس. وبما أن للكل عوائده المستحبّة فقد رتّب الله والرجال الذين أرسلهم أن يراعوا هذا الشعور في خلاص العالم.
لا تعتبر إذاً دعوة الله للمجوس بواسطة النجم أمراً غير لائق به، وإلاّ فتفضي بك الحال إلى الطعن بالترتيبات اليهودية كلها: الذبائح، والتطهير، وأعياد أوائل شهورهم، والتابوت، والهيكل نفسه. لأن هذه الأمور أخذت أصلها من ظلمات اليونان الدامسة. فإن الله، لأجل هداية الضالين، يرتضي مع بعض التعديل، بما كان الوثنيون يرضون به الشياطين، حتى إذا أبعدهم شيئاً فشيئاً عن عادتاتهم، قادهم إلى الفلسفة السامية. فانه عزَّ وجل إنما ارتضى أن يدعو المجوس بواسطة النجم لكي يرقى بهم إلى ما هو أسمى. فبعد أن قادهم وأخذ بيدهم ووقف بهم عند المزود، لم يعد يكلمهم بواسطة نجم بل بواسطة ملاك. وهكذا أصبحوا خيراً مما كانوا عليه.
انظر إلى فضيلة هؤلاء المجوس لا نظراً إلى أنهم قدموا من بلاد نائية فقط، بل خصوصاً لأنهم جهروا بما جاءوا لأجله، فلئلا يبدو أنهم أناس محتالون يصفون النجم الذي أرشدهم، وطول الطريق التي قطعوها، ويجهرون عند قدومهم بأمرهم قائلين: “قد جئنا لنسجد له”. ولم يخافوا لا سخط الشعب ولا طغيان الملك. ففي اعتقادي أن هؤلاء الرجال أصبحوا في بيوتهم فيما بعد معلِّمين لمواطنيهم. لأنهم إذا كانوا في هذا الموقف لم يخشوا الجهر بذلك، أفما كانوا بالأحرى يجاهرون به في بلادهم ولا سيما بعد أن تلقّوا الوحي من الملاك وشهادة النبي.
+ + +