هَا أنا أبشركم بفرح عظيم (لوقا 10:2)
إني أتأمل سرًا عجيبًا وجديدًا, فيرن في أذني صوت تسبحة الراعي المتغني بترنيمة السماء…
هوذا الملائكة ترتل, ورؤساء الملائكة تتغنى في انسجام وتوافق. الشاروبيم يسبحون بتسابيحهم المفرحة, والساروفيم يمجدونه. الكل اتحد معًا لتكريم ذلك العيد المجيد, ناظرين الإله على الأرض, والإنسان في السماء, الذي من فوق يسكن هنا على الأرض لأجل خلاصنا, والإنسان الذي هو تحت يرتفع إلى فوق بالمراحم الإلهية!
هوذا بيت لحم تضاهي السماء, فتسمع فيها أصوات تسبيح الملائكة من الكواكب, وبدلا من الشمس سطع شمس البرّ في كل جانب.
لا تسل: كيف هذا؟! فإن الله إذ يريد, تخضع الطبيعة, لقد أراد, وكان له سلطان, نزل, وخلص… والكل يتحرك في طاعة لإرادته.
هوذا اليوم وُلد ذاك الذي هو كائن, وصار غير الذي كان عليه, إذ وهو الله صار إنسانًا, لكن بلا انفصال عن لاهوته, أي عن نفسه, وبلا نقص أو زيادة في لاهوته. لأن “الكلمة صار جسدًا دون أن تتغير طبيعته…
الأشرار رفضوه
رفض اليهود ميلاده العجيب. وبدأ الفريسيون يخطئون في تفسير الكتب, والكتبة ينطقون بما يناقض ما يقرأونه.
هيرودس بحث عن المولود, لا لكي يسجد له, بل لكي يقتله…
ليأتِ الكل إليه
ليأتِ الملوك، ويروا الملك السماوي, هذا الذي جاء على الأرض بلا ملائكة ولا رؤساء ملائكة ولا عروش ولا قوات, مع أنه لم ينسَ ملائكته, ولا تركهم بلا رعاية…!
ليأتِ الجنود ليخدموا قائد الجنود السماوية..
لتأتِ النسوة لتمجد ذاك الذي وُلد من امرأة، حتى يحول مرارة آلام الولادة إلى لذة.
لتأتِ العذارى إلى ابن العذراء, متطلعات بفرح إلى ذاك الذي يعطي اللبن… يتقبل غذاء الأطفال من أمه العذراء.
ليأتِ الأطفال ليعبدوا ذاك الذي صار طفلاً صغيرًا حتى يهيئ من أفواه الأطفال والرضع سبحًا للطفل الذي أقام منهم شهداء في ثورة هيرودس.
ليأتِ الرجال إلى ذاك الذي صار إنسانًا حتى ينزع البؤس عن عبيده.
ليأتِ الرعاة إلى الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن خدامه.
ليأتِ الكهنة إلى ذاك الذي صار رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق.
ليأتِ العبيد إلى ذاك الذي أخذ صورة عبد حتى يحررهم من العبودية.
ليأتِ صيادوا الأسماك إلى ذاك الذي اختار من بينهم تلاميذه.
ليأتِ العشارون إلى ذاك الذي اختار منهم متى الإنجيلي.
لتأتِ النسوة إلى ذاك الذي قدم قدميه لتغسلهما التائبة بدموعها.
وإنني إذ احتضن الجميع, يأتي الخطاة لينظروا “حمل الله الذي يحمل خطايا العالم”.
هذه هي فرحتي
ليفرح الجميع, وأنا أيضًا أريد أن أفرح معهم, مشتركًا مع المحتفلين بميلاده.
ومشاركتي في الفرحة, لا أريدها بالضرب على القيثارة, أو بواسطة المزمار، ولا بحمل المشاعل… بحمل مهد الطفل بين يدي. هذا هو رجائي, هذا هو حياتي. هذا هو خلاصي, هذا هو مزماري, هذا هو قيثارتي.
إني آتي لكي أحمله, وأنال بقوته قوة الحديث, مرنمًا مع الملائكة أيضًا، قائلاً: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة”.
ميلاد أزلي وميلاد زمني
ذاك الذي ولد من الآب ميلادًا لا يُوصف, ولد اليوم لأجلي من عذراء ميلادًا غير منطوق به.
المولود من الآب قبل كل الدهور… ولد اليوم ثانية بالروح القدس من عذراء, ناقضًا ناموس الطبيعة.
ميلاده السماوي (الأزلي) حق, وميلاده على الأرض حق أيضًا…
وإذ هو ابن الله الوحيد, فهو أيضًا الوحيد مولود من عذراء.
في ميلاده السماوي من ينسب له أًما يكون له هرطوقيًا, وفي ميلاده على الأرض من ينسب له أبا يكون مجدفًا.
ميلاده السماوي لا يُوصف, ومجيئه بيننا في هذا الزمان لا يمكن استقصائه بتدقيق…
سر الأسرار
إنه أمر طبيعي لامرأة متزوجة أن تنجب, أما إن عذراء تلد وهي غير متزوجة وتبقى عذراء بعد الإنجاب, فهذا ما يفوق قانون الطبيعة.
ما يحدث بحسب الناموس الطبيعي يمكننا فحصه, أما ما يتجاوز الطبيعة، فنكرمه صامتين, لا أن نتجنبه أو نعبر عنه, بل نبجله صامتين كأمرٍ عظيمٍ يفوق كل حديث…
ماذا أقول لك وبماذا أخبرك؟!.. إني أرى أمًا تلد, وأرى طفلاً مولودًا جاء إلى العالم. أما كيفية الحمل، فهذا لا أقدر أن أدركه (بعقلي). هوذا الطبيعة قد قُهرت, والنظم المستقرة قد أُبطلت, لأن الله أراد ذلك! هوذا الطبيعة قد استراحت, بينما إرادة الله تعمل!
يا لها عطية غير موصوفة! المولود قبل كل الدهور وحده, غير المحسوس ولا المنظور, البسيط, الذي بلا جسد أخذ جسدي. لماذا؟ لكي يأتي بيننا ويعلمنا, ويقودنا بيديه إلى الأمور غير المنظورة. فإذ يصدق البشر أعينهم أكثر من آذانهم, لذلك يشكون فيما لا يرونه. هكذا تفضل أن يظهر في الجسد لكي يبدد الشكوك…
أعطانا كرامة
إنه كخالقٍ أعد لنفسه إناء جميلاً، هكذا خلق السيد المسيح جسد العذراء الطوباوية ونفسها, ليبني لنفسه هيكلاً يسكن فيه كما أراد. أخذ من العذراء جسدًا, وجاء به دون أن يخجل من طبيعتنا الحقيرة, إذ يرى أنه ليس بأمرٍ حقيرٍ أن يأتي فيما قد صنعه حتى تبقى جبلة يديه مُكرمة…
وكما أنه في الخلقة الأولى للجسد, ما كان يخلق ما لم يوضع الطين في يدي الله, هكذا ما كان لهذا الجسد أن يصير مكرمًا إلا بعدما يصير حلة لصانعه…
ماذا أقول، وبماذا أصف لكم هذا الميلاد؟!… قديم الأيام صار طفلاً. الجالس على العرش السماوي يرقد الآن في مزود, غير المحسوس, البسيط, غير المركب, الذي بلا جسد, صار بين أيدي البشر, الذي يفك أسر الخطاة مُقمط بأقمطة الأطفال[2]
لقد أعلن أنه ما هو للعار صار مشرفًا, والفضيحة تّزيت بالفخر, وانحطاطنا نُزع بنعمته. لهذا أخذ جسدًا حتى نصير متفطنين لكلمته. أخذ جسدي، معطيًا إياي روحه. هو أعطاني وأنا آخذ, مهيأ لي كنز الحياة. أخذ جسدي لكي يقدسني, معطيا إياي روحه لكي يخلصني.
بين اليهود الأشرار والكنيسة
ولكن ماذا أقول، وبماذا ينطق لساني الضعيف؟ “هوذا العذراء تحبل” (إش 14:7)…
لقد تمت النبوة بين اليهود الذي تنبأوا بهذا, لكن نحن الذين لم يعلن لنا بها قد آمنا…
لقد أعطيت النبوة لليهود, لكن الكنيسة هي التي انتفعت بها.
واحد أخذ الوثيقة, والآخر نال قيمتها.
واحد لبس الصوف, والآخر لبس الحلة الملوكية.
اليهودية أنجبته, لكن العالم كله قبله.
مجمع اليهود علم عنه, لكن الكنيسة هي التي قبلته وأمسكت به.
المجمع عند غصن الكرمة, وأنا عندي ثمرة الإيمان.
إسرائيل جمع الأعشاب, لكن الأمم شربوا الخمر السرية.
واحد زرع البذور, والأمم جمعوا الحصاد بالإيمان.
قطفت الأمم الزهور باحترام وتبجيل, وبقي شوك الحقد لليهود.
الفرخ أخذ جناحًا, وأما الغبي (لليهود) فلا زال ينتظر في العش الفارغ.
إسرائيل لازال يتطلع إلى أوراق الكتاب, بينما تتمتع الأمم بثمار الروح…
ميلاده من عذراء
اليوم جاء من عذراء, هذا الذي ترك الطبيعة جانبًا وارتفع فوق الوسائل الزوجية.
كان يليق بواهب القداسة أن يدخل هذا العالم بولادة مقدسة. فهو الذي خلق آدم قديمًا من أرض عذراء, خلق حواء من آدم بغير امرأة.
كما أن آدم أنجب امرأة بدون امرأة, هكذا أنجبت العذراء رجلاً بدون رجل.
وكما أن المرأة قديمًا كانت مدينة للرجل إذ انجبها بغير امرأة, هكذا بدون رجل أنجبت العذراء الآن رجلا, فسددت الدين الذي كان عليها. لذلك فليس لآدم أن يتكبر، لأنه أنجب امرأة, إذ المرأة أنجبت رجلاً بغير رجل.
عندما سُئِلَ السيد المسيح هل قليلون هم الّذين سيخلصون ومن هم وهل هم كثرةٌ أم قلَّةٌ هل هم نحن أم الآخرين أم الأرثوذكسيين ؟” أجابهم السيد المسيح:” اسعوا لكي تدخلوا من الباب الضيّق !”
ويقول القدِّيس يوحنَّا الذهبي الفم :” أترى؟ لقد سألوه شيئاً فأجابهم بشيءٍ آخر .” لقد سألوه هل سيُخلص قلَّةٌ أم كثرةٌ من الناس ؟ أنخلص نحن أم الآخرون؟ ما الّذي يجري بالخلاص ؟ فقال المسيح:
– لا تهتمُّوا بما لا يعنيكم ! إنَّكم تسعون مسعى حسناً !
هل أنت أرثوذكسي ؟ اسعَ إذن أن تصبح أرثوذكسيَّاً بالفعل . إنَّنا لسنا أرثوذكسيين ولكنَّنا نصبح كذلك . هل تعرفون ما أروع أن يقول الإنسان عن نفسه :” أنا مسيحي أرثوذكسي !” يجب عليك أن تكون هكذا بحيث يرى الآخر المسيح بجانبه . مَن منَّا يمكنه أن يفتخر بأنَّه إنسانٌ أرثوذكسي كهذا؟ إنَّه ليس بإمكاننا أن نحبَّ حتَّى بعضنا بعضاً . ليس هنالك محبَّةٌ في الوسط الكنسي . هل هنالك محبَّة ؟ نحن مع هذا وأمَّا أنتم فمع ذاك . نحن لدينا هذا الشيخ ( الستارتس ) وأمَّا أنتم فلديكم ذاك الشيخ ( الستارتس ) . أي أنَّ هنالك أمورٌ الّتي إن رآها المرء في الوسط الكنسي فإنَّه سيتيَّقن أنَّه لا وجود لها حتَّى في أوساط الناس العلمانيين .
إِنَّ أحد البروتستانت الّذي كانت قد تمَّ مسحه بالزيت قبل فترة من الزمن ليست ببعيدة وسبق أن تناقشنا قبل ذلك قد قال لي:” أبونا إنِّي عندما كنت هناك ( عند البروتستانت ) كنَّا نصلّي ونقرأُ الإنجيل لساعاتٍ عدَّة…”
وأنصحكم أن تدعوا أولئك الّذين يقولون بأنَّ الشيطان يجعلهم يفعلون هذا . حسناً إنَّ الشيطان يجعلهم يفعلون ذلك ولكن ذلك أيضاً ليس بقليل أن تصلّي وتقرأَ الإنجيل لساعاتٍ عدَّةٍ . ليس كلُّ شيءٍ من الشيطان . ثمَّ إنَّه بما أنَّ الشيطان يجعلهم يقومون بذلك فهل يجعلنا نحن الّذين نعدُّ أرثوذكسيين أن نقوم بالأمور المعاكسة تماماً ؟ يجب علينا ألا نقرأ أبداً وألا نصلّي لأنَّ الشيطان لا يجعلنا نقوم بذلك ، نحن أرثوذكسيون ولذلك دعونا نتكاسل . ولكنَّ ذلك لا يجوز . فسألني ذلك الرجل البروتستانتي :” أبونا حينما أُصبح أرثوذكسيَّاً فهل ستجد لنا جماعةً مثل هذه ؟”
إنَّه كان يودُّ أن يُصبح أرثوذكسيَّا وزوجته كذلك معه كانت تقول لي:” وأمَّا أنا أبونا فإنَّني حينما أتَّصل بصديقاتي البروتستانتيات فإنَّنا نتناقش عبر الهاتف طوال الوقت حول الكتاب المقدَّس وحول نصوصٍ كُتِبت من قبل يوحنَّا الذهبي الفم ونتبادل الآراء ! فإنَّنا لا نتكلَّم عن القال والقيل ولا عن شيءٍ آخر !”
وأقول لكم بصراحةٍ خجلت من ذلك . لم أكن أعرف بماذا أرُدُّ عليها . لأنَّ أولئك الأصدقاء الّذين أعرفهم إلى حدٍّ ما بالإضافة إليَّ أنا لسنا مثلهم . إنَّني لا أستطيع أن أتكلَّم عن المسيح عبر الهاتف طوال اليوم . وأمَّا هم فكانوا يتحدَّثون عنه . بالرغم من كونهم موجودين في الضلال والهرطقة فإنَّهم كانوا يتحدَّثون عن المسيح وأمَّا أنا الأرثوذكسي فلا يمكنني القيام بذلك ولذلك خجلت من نفسي . وأنا الآن خجلٌ منكم لأنَّني أكلِّمكم بهذه الأمور وإنَّني أتوسل إليكم أن تغفروا لي لأنَّني لا أجعل من نفسي ذكيَّاً بل أقصد بذلك أخطاءً وأهواءً خاصَّة بي . وبعبارةٍ أخرى إنَّني أنتقد نفسي ( في هذا المقال ) وإذا كان هنالك بعضٌ منكم يتَّفقون معي فحسناً يفعلون وأمَّا إن وُجِدَ آخرون لا يوافقونَني في الرأي فأرجو المعذرة منهم !
النهاية
الكاتب : الأب الأرشمندريت أندراوُس كونانوس اليوناني
تُرجم من الموقع البلغاري : أبواب الأرثوذكسيَّة
فيكتور دره 12 / 12 / 2011