عيد ميلاد المسيح كإنسان هو رأس الأعياد، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. كل أعياد السيد الأخرى – الظهور، التجلّي، الالام، الصليب، القيامة والصعود – تتبع الميلاد. من دون الميلاد لم كانت القيامة لتكون، وبالطبع من دون القيامة لم يكن هدف التجسّد ليتحقق. كلّ هذه الأعياد واحدة. نحن نفصلها لكي نحتفل بها، ولكي ننظر بوضوح أكبر إلى محتواها. في كل قداس إلهي، نعيش كلّ أحداث التجسّد الإلهي. وهكذا، بحسب الآباء، كل عيد هو الميلاد، وكل عيد هو الفصح وكل عيد هو العنصرة.
ما جرى في البشارة، بدأ يتكشّف عند ميلاد المسيح. عندما نسمّيه إعلاناً نعني أنّ هناك أكثر من شخص، كالعذراء ويوسف وغيرهما، قد كُشِف لهم أنّ المسيح الذي كانت تنتظره كلّ الأجيال قد أتى إلى العالم. على الأكيد، يبقى المسيح مخفياً عندما يظهر، وعندما يظهر يكون مخفياً. نحن نرى هذا في مجمل حياته كما في إعلانه لقديسيه.
ميلاد المسيح هو حدث تاريخي لأنّه جرى في لحظة محددة من التاريخ، عندما كان أوغسطس قيصر امبراطوراً لروما وهيرودس حاكماً لليهودية. شدد الإنجيليون على تاريخية الحدث، لأنّهم يريدون أن يقولوا أن المسيح هو شخص تاريخي. هذا يعني أن المسيح اتّخذ جسداً بشرياً حقيقياً، وأن التجسد لم يكن مجرّد مظهر خارجي أو خيال. وبالرغم من تاريخيته، يبقى هذا الحدث سرّاً. نحن نعرف أنّ الإله-الإنسان، الإله الكامل والإنسان الكامل، موجود، لكن ما يبقى سراً هو كيفية اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في شخص الكلمة. إلى هذا، ما جرى لشخص المسيح، أي اتّحاد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية، جرى مرة واحدة فقط. لهذا قال القديس يوحنا الدمشقي أن المسيح هو "الأمر الوحيد الجديد تحت الشمس". هذا يعني أنّه منذ خلق العالم والإنسان، لم يكن هناك أي جديد في العالم. كل شيء يتكرر. ولادة الإنسان هي نتيجة كلمة الله وثمرتها "لنصنعنّ الإنسان على صورتنا وشبهنا"، و "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا" (تكوين 26:1-28). الجديد الوحيد هو المسيح الإله – الإنسان.
إذاً، حقيقة أن الحدث تاريخي لا تلغي السر، كما أن السر لا يستبعد التاريخية. في عيد الميلاد نحتفل بميلاد المسيح، ولكن في الوقت عينه نختبر سرّياً، في قلوبنا، كل الأحداث المرتبطة به، إذ عندما نكون أحياء في الكنيسة، نشترك في كل مراحل التجسّد الإلهي ونختبرها.
الفرق بين العهدين القديم والجديد هو أنّ كل الإعلانات الإلهية في العهد القديم هي إعلانات للكلمة من دون جسد، بينما في العهد الجديد هي إعلانات للكلمة المتجسّد. إنّ الذي أعلن ذاته لموسى والأنبياء كان ابن الله وكلمته من دون جسد، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. لم يكن للأنبياء العهد القديم وأبراره مجرّد شركة مع كلمة الله بل لقد عاينوا أيضاً تجسده. هذا هو معنى أنّهم رأوه كإنسان. آدم، كما يذكر العهد القديم، سمع وطأ قدمي الله الذي كان سائراً في الفردوس. يعقوب تصارع مع الله. موسى رأى الله من الخلف. إشعياء رآه إنساناً جالساً على العرش. دانيال رآه كشبه إنسان وابن إنسان آتٍ إلى قديم الأيام. كل هذه الإعلانات تشير إلى أنّهم رأوا تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس،رأواالذي تجسّد لخلاص الجنس البشري.
حقيقة أنّ موسى رأى الله من الخلف تشير بوضوح إلى أنهّ رأى ما سوف يحدث في المستقبل، أي تجسّد الكلمة. الأنبياء لم يروا طبيعة الله بل مثال وصورة ما سوف يجري في المستقبل. فابن الله وكلمته كان آتياً ليصير إنساناً بالحقيقة، لكي يتّحد مع طبيعتنا ولكي يُرى بالجسد على الأرض (القديس يوحنا الدمشقي). بمعزل عن هذه الحالات، هناك أيضاً نصوص رؤيوية في العهد القديم تتنبأ بوضوح، ليس فقط عن تجسّد كلمة الله، بل أيضاً عن وقائع محددة، كمثل أنّه لن يفسد عذرية والدة الإله، وأنّه سوف يجلب السلام على الأرض، وغيرها.
" مجد لله في العلى وعلى الأرض السلام" (لوقا 14:2)، هذا نشيد الملائكة المميّز. السلام الذي امتدحه الملائكة ليس سلاماً اجتماعياً، بل هو تجسد المسيح وحضوره. هكذا، كان الملائكة يسبّحون السلام الذي أتى مع ولادة المسيح وليس السلام الذي سوف يأتي في المستقبل. فالمسيحُ بتجسده أعطى للإنسان السلامَ مع الله ومع أخيه ومع نفسه أيضاً، ذلك بالتحديد لأنّ الطبيعة الإلهية اتّحدت بالطبيعة البشرية في شخصه. بعد سقوطه، خسر الإنسان السلامَ مع الله لأنّه عبد الأصنام العادمة النفس والأحاسيس وليس الإله الحقيقي. الآن، بتجسّد المسيح أُعطي إمكانية عبادة الإله الحقيقي. لقد بلغ السلام أيضاً مع الملائكة ومع إخوته البشر. وبالحقيقة، لقد بلغت قوى نفسه السلام لأن المسيح عمل ما فشل آدم في عمله. كان على آدم أن يبلغ الشركة الكاملة مع الله بالنعمة الإلهية وبجهاده، فكان ينبغي أن تعمل قوى نفسه طبيعياً وفوق الطبيعي. هذا حققه المسيح.
توحي عبارة "في الناس المسرة" بأنّ التجسد كان إرادة الله من قبل. بحسب الآباء، تُكشَف إرادة الله في ما يسبق وما يتبع. ما يسبق هو بإرادته الحسنة، وما يتبع هو بسماحه. عندما يُقال بأنّ التجسّد كان إرادة الله قبلاً، يُفهم أنّه لم يكن نتيجة السقوط. بتعبير آخر، اتحاد الإنسان بالله لم يكن لينجح لو لم يكن هناك شخص محدد فيه تتحّد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية. لهذا، التجسد هو إرادة الله السابقة، ما يعني أنّه كان مخططاً لها بغضّ النظر عن سقطة آدم. ما نتج عن السقوط كان آلام المسيح وصلبه. تجسّد المسيح كان نهاية الخلق. كل الخليقة والإنسان هم من أجل الإله- الإنسان. هذا يُقال من وجهة نظر أن الإنسان لم يكن ليتألّه ولا الخليقة لتتقدّس لو لم يكن الإله – الإنسان.
بالإضافة إلى الرعاة، أعطي المجوس أو حكماء المشرق أن يسجدوا للمسيح المولود جديداً. الأمر المهم ليس متى صار هذا، بل أنّهم اكتشفوا المسيح. الأمر الجوهري هو أنّ الله كُشِف لهم، ما لم يحدث للكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكّلون المؤسسة الدينية في ذلك الحين. لم يكن الحكماء منجّمين بالشكل الذي نعرفه اليوم، بل علماء فلك يراقبون النجوم وحركاتها في السماء. في ذلك الحين، كان التنجيم يُعتَبَر علماً. اليوم انفصل علم الفلك عن التنجيم المرتبط بالماورائيات والشيطانيات والذي يرفضه الإيمان الأرثوذكسي.
عرف المجوس المسيح وسجدوا له "بسبب معرفتهم الداخلية". لقد رأوا طفلاً بأعينهم الجسدية وبنظرهم الخارجي، إنّما بنفوسهم رأوا الله الذي صار إنساناً. إذاً، كان المجوس في حالة روحية مؤاتية ليروا الله ويعبدوه. لم يكن الأمر مسألة علم بل مسألة طهارة داخلية. ما يثبت هذا الكلام هو أنّ النجم الذي رأوه في الشرق والذي قادهم إلى بيت لحم لم يكن نجماً عادياً، بل بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، ملاك الرب قادهم. هذه لم تكن حادثة عادية بل فوق العادية، كما يظهر من صفات هذا النجم. أولاً، هذا النجم لم يكن يتحرّك وحسب بل كان يقف أيضاً. كان يتحرّك عندما يتقدّم المجوس ويتوقّف عندما يتوقّفون. ثانياً، هذا النجم كان يتحرّك منخفضاً أكثر من غيره من النجوم، وعندما بلغ المجوس إلى حيث كان المسيح، نزل وتوقّف فوق المنزل. ثالثاً، لقد كان لامعاً أكثر من النجوم الباقية (القديس نيقوديموس الأثوسي). إلى هذا كان نجم المجوس يتحرّك بطريقة غريبة، من الشرق إلى الغرب، وعند النهاية تحرّك من أورشليم إلى بيت لحم، أي نحو الجنوب. وأيضاً، كما يذكر القديس يوحنا الذهبي الفم، كان يظهر حتّى في النهار، بينما لم يكن أي نجم آخر يظهر في نور الشمس.
إذاً، هذا النجم اللامع كان ملاك الرب، وكما يقول يوسف فريونيوس، لقد كان رئيس الملائكة جبرائيل الذي خدم وشهد السرّ العظيم، سرّ تجسّد ابن الله وكلمته. إذاً، كان المجوس لاهوتيين بالمعنى الأرثوذكسي للكلمة، لأنّهم بلغوا الاستنارة وأحرزوا معرفة الله.
الخليقة كانت أيضاً حاضرة عند ولادة المسيح، وقد أخذت نعمة من ابن الله وكلمته الصائر إنساناً. تشمل عبارة "الخليقة": الحيوانات، المغارة، المذود، الجبال، السماء وغيرها. تظهِر أيقونة الميلاد كل الخليقة تتسلّم نعمة من المسيح. يظهر المسيح في وسط الأيقونة، وهو مصدر النعمة غير المخلوقة، ومنه تفيض قوة الله المقدِّسة والمؤلِّهة.
عند ميلاد المسيح، كل الخليقة تمجّد الله خالقها. إنّها تشهد بأن المسيح كإله هو صانع الخليقة وأن الخليقة هي عمل يديه. قلنا سابقاً أن كل الخليقة أخذت نعمة من الله عند لحظة الميلاد. علينا أن نميّز بوضوح أنّه فيما قوة الله هي واحدة، إلا إنّ لها صفات مختلفة بحسب تأثيراتها. وهكذا، نحن نتحدّث عن قوّة مقدِّسة ومؤلِّهة، أو يمكننا أن نتحدّث عن قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة وتضفي الحكمة وتقدّس. في هذا الإطار علينا أن نقول أنّ من جهة الأنطولوجيا، تشارك الخليقة في قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة، ومن جهة الخلاص تشارك في قوته المقدَّسة. وحدهم المتقدّسون والملائكة يشتركون في قوة الله المقدّسة.
إذاً، الأشخاص الموجودون عند ولادة المسيح، والملائكة أيضاً، اشتركوا في قوة الله المؤلِّهة، بينما الخليقة غير العاقلة شاركت في قوة الله المقدِّسة. نذكر هذا لتلافي أي تشوش في الكلام عن الاشتراك بنعمة الله.
في الحديث عن ابن الله وكلمته صائراً إنساناً، من الأساسي أن نتفحّص الأسماء التي تُعطى له لأنها تعبّر عن عدّة حقائق لاهوتية. قبل التجسّد، يُسمّى الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس ابن الله وكلمته. تشير تسمية "ابن" إلى أنّه وُلد من الآب، وما وُلِد هو شخصه. تُستعمَل أيضاً تسمية "كلمة الله" للإشارة ليس فقط إلى عدم إمكانية الخطيئة عند المولود بل أيضاً إلى وظيفتي الارتباط والإعلان عنده، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. إنّه يُدعى "كلمة" لأنّه مرتبط بالآب كما ترتبط كلمة الإنسان بناسوته، أي أنّ الكلمة تعلِن ما في النوس من أفكار وغيرها. إذاً، تسمية "الكلمة" تظهِر لنا الآب أيضاً، لأنّ مَن يفهم الكلمة ويراه يفهم أيضاً الآب ويراه في الكلمة.
بعد التجسّد، أو بالأحرى عند لحظة الحَبَل بالكلمة في رحم العذراء، تمّ اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في أقنوم الكلمة الذي يُسَمّى المسيح. إن تسمية المسيح هي اسم الأقنوم ولا تُستَعمَل لطبيعة واحدة، بل هي إشارة إلى الطبيعتين في الإله الذي تجسّد. بما أنّ الطبيعة البشرية مُسحَت من الله، سُمّي الكلمة المسيح. تشير تسمية المسيح إلى الآب الذي مَسَح والابن الذي مُسِح والروح القدس الذي هو الزيت المقدس. في أي حال، بما أن الطبيعة البشرية مٌسحَت من كل الثالوث القدوس، فكلمة الله شارك في المَسْح. فالكلمة مسح نفسَه بألوهيته وفي الوقت ذاته، مُسِح كإنسان (القديس يوحنا الدمشقي).
وهكذا، اسم المسيح يعني الله والإنسان، أي المسيح الإله-الإنسان. يمكن استعماله أحياناً لإنسانية المسيح وأحياناً لألوهيته. لكن هذا يكون منتهى التكييف، إذ بعد اتّحاد الطبيعتين في أقنوم واحد، دُعي الكلمة المسيح. إذاً، الذي كان ابن الله وكلمته قبل التجسّد، فيما هو دائماً ابن الله وكلمته، سُمّي المسيح بعد التجسّد إشارةً إلى اتّحاد الطبيعتين. إن كلمة "ألوهة" تشير إلى الطبيعة، بينما كلمات "الآب" و"الابن" و"الروح" تشير إلى الأقانيم.
من الهرطقة الادّعاء بأنّ الألوهة تجسّدت أو صارت إنساناً. الإيمان الأرثوذكسي هو أنّ الألوهة اتّحدت بالبشرية في أحد أقانيمها، أي أن الآب لم يتجسّد، بل الأقنوم الثاني وحده، ابن الله وكلمته، الذي كان إلهاً حقيقياً، اتّخذ جسداً. (القديس يوحنا الدمشقي.)
للمسيح ميلادان. الأول قبل الدهور، من الآب وبلا علّة ولا كلمة ولا زمن ولا طبيعة، والثاني من أجلنا من البتول "عند الحَبَل" ولكن "فوق نواميس الحَبَل"، إذ حُبِل به من الروح القدس وليس من أي زرع. وُلِد ابن الله وكلمته قبل الدهور من أب بتول من دون أم، وفي الزمن من أم بتول من دون أب بالجسد. كلا الميلادين كانا بلا هوى ، إذ لا الآب عانى من أي شيء ولا العذراء خسرت عذريتها بالولادة.
كلا الميلادين لا يسبَر غورهما العقل البشري. نحن نقبل الحقيقة المُعلَنة بأنّه وُلِد من الآب من دون سيلان ومن العذراء من دون زرع، من دون أن نعمِل هذه الوقائع عقلياً. إذ، بحسب القديس غريغوروس اللاهوتي، المجهود لفهم الأسرار التي تفوق العقل يمكن أن يؤدّي إلى الجنون. حقيقة أن هذين الميلادين يقدّمان التأكيد اللازم بأنّ الإنسان يمكن أن يخلُص فقط من خلال المسيح، لأنّ المسيح أصلح غلطة آدم وقاد الإنسان إلى الهدف الذي كان آدم ماضياً غليه لو لم يخطأ.
يقدّم القديس يوحنا الدمشقي بعض الملاحظات الإتيمولوجية الدقيقة حول الكلمتين باليونانية "ageneto" و"geneto" (مع n واحدة)، وهي مشتقة من الفعل "أصبح"، والكلمتين "agenneto" و"ageneto" (مع n مكررة)، المشتقتين من الفعل "وَلَد". هذه الملاحظات الإتيمولوجية تعبّر عن المعنى الأكثر عمقاً في اللاهوت الأرثوذكسي. فالكلمتان "ageneto" و"geneto" (مع n واحدة) تعنيان غير المخلوق والمخلوق على التوالي، لأن غير المخلوق لم يُصنَع، بينما المخلوق صُنِع في وقت ما. بهذا المعنى، الله غير مخلوق وغير مصنوع، بينما المخلوق يشير إلى العالم. تُستَعمَل عبارتا "غير المخلوق" و"المخلوق" للإشارة إلى طبيعة شيء ما. لا تشير كلمتا "agenneto" و"genneto" (مع n مكررة) إلى الطبيعة بل إلى الأقنوم. نرى ذلك في الله والإنسان. الآب هو "agennetos" لأنّه لم يولَد من أحد، الابن في وجوده الإلهي "gennetos" لأنّه وُلِد من الآب قبل الدهور. نلاحظ الأمر نفسه في الإنسان أيضاً لأن الإنسان أيضاً مولود لكنه مخلوق.
استناداً إلى هذه الافتراضات، الآب هو "agenetos" (مع n واحدة) لأنّه غير مخلوق ولم يوجَد، لا بداية لخلقه، وفي الوقت نفسه هو "agennetos" (مع n مكررة) لأنّه لم يولَد بل هو نفسه وَلَد الابن وأرسل الروح القدس. الابن "agenetos" (مع n واحدة) لأنّه كإله ليس مخلوقاً، وهو "gennetos" (مع n مكررة)، بالضبط لأنّه وُلِد من العذراء مريم في الزمن.
لهذا الأمر أهمية كبيرة في الخريستولوجيا، لأنّه يشير إلى ألوهية كلمة الله وأيضاً إلى حقيقة أنّه بعد الولادة أقنوم. لأنّ المولود "genneto" (مع n مكررة) هي صفة مميّزة للأقنوم، فالعذراء وَلَدَت أقنوماً معروفاً بطبيعتين.سؤال أساسي حول تجسّد كلمة الله هو: لماذا صار الأقنوم الثاني إنساناً وليس الأول (الآب) أو الثالث (الروح القدس). بالواقع، الثالوث القدوس عمل كلّه في التجسّد لأن الكلمة اتّخذ الطبيعة البشرية، الآب سُرّ بتجسّد ابنه، والروح القدس تعاون، لأنّ المسيح حُبِل به من الروح القدس. لكن الواقع هو أنّ الأقنوم الثاني هو الذي أخذ الطبيعة البشرية، وذلك لسببين أساسيين.
السبب الأول هو أنّ كلمة الله هو النموذج الأوّل لخلق الإنسان. ابن الله وكلمته هو "صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ" (كولوسي 15:1)، الإنسان خُلِق على صورة الله أي صورة الكلمة. بحسب القديس يوحنا البدمشقي، صُنِع الإنسان على صورة الكلمة، إذ أعطي إرادة نوسية حرة، وكان "على مثاله"، أي أنّه صُنِع على أكمل ما يمكن لطبيعته في الفضائل. لكن، بتجاوزه الوصايا أظلم المثال وعُرّي من الشركة مع الله، وكنتيجة طبيعية دخل الفساد والموت. لهذا صار الكلمة إنساناً، لكي يعيد خلق الإنسان ويقوده إلى حيث يصل بنعمة الله وجهاده الشخصي. بالخلق أعطانا الله ما هو أكثر رفعة، أي أن نكون على صورة الله ومثاله، لكننا لم نحمِ هذه العطية وخسرناها. الآن كلمة الله، النموذج الأول لخليقتنا، أتى واتّخذ ما هو أكثر ضعة، أي طبيعتنا ليحررنا من الفساد وليعيد الإناء الذي صار بلا نفع ومكسوراً، كما ليخلصنا من طغيان الشيطان ويرشدنا في الحياة الجديدة.
كما يعلّم القديس أثناسيوس الكبير، عودة الإنسان إلى الله لم تكن مسألة توبة وحسْب، إذ بعد الخطيئة، دخل الفساد والموت. فقد كان ينبغي التغلّب على الموت. لهذا، ابن الله وكلمته، بتجسده، اتّخذ من العذراء الجسد الأكثر نقاوة، مع أنه جسد قابل للموت ومعرّض للخطيئة، لكي يقهر الموت والشيطان وليكون النموذج الأول للخليقة.
السبب الثاني الذي لأجله صار الأقنوم الثاني إنساناً هو شخصيته التي بقيت غير متغيّرة. لكل أقنوم من الثالوث القدوس شخصيته التي لا تتغيّر. الآب هو الآب وليس الابن، الابن هو ابن الله وليس الآب، والروح القدس هو الروح القدس وليس لا الآب ولا الابن. هذه الشخصية الخاصة لا يمكن أن تتغيّر، ولا أن تنتقل أو تتحوّل. لا يمكن للآب أن يصير الابن، ولا للروم القدس أن يولَد، لأنّه ينبثق من الآب. الأقنوم الثاني الذي وُلِد من الآب قبل كل الدهور، ينبغي به أن يُولَد في الزمان أيضاً، بجسده من العذراء. إذاً، ابن الله صار ابن الإنسان لكي يبقى شخصه غير متغيّر.
السبب الثالث هو أن الأقنوم الثاني هو كلمة الله الذي ينقل إلينا إرادة الآب. فهو مَن كشف لنا في العهد القديم إرادة الله الآب وأعلنها. بالتالي، من خلال الكلمة المتجسّد نصل إلى خلاصنا. نحن نقارب الآب من خلاله. إنّه الباب الذي به ندخل بيت الآب. وكون المسيح هو باب الخراف فالروح القدس هو المفتاح (القديس سمعان اللاهوتي الحديث.)