29- القربان المقدس (أي سر الشكر الالهي)
في الخميس العظيم أكل يسوع الفصح اليهودي مع تلاميذه. التحقيقات المعاصرة مترددة. يبدو أن عيد الفصح كان يوم السبت. ويبدأ الذبح في الهيكل ظهر الجمعة. اذاً: يسوع أكل خروف الفصح مقدِّماً الفصح 24 ساعة[1]. إنما كان هو نفسه خروفنا الفصحي يوم الجمعة، فذُبح عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وسُجِّي في القبر، فقام فجر الأحد. خروفنا حيٌّ إلى الأبد لا يموت، لذلك لا يموت، يملك القدرة على إمدادنا بالحياة.
الجندي نحره بالحربة فخرجت الكنيسة من جنبه كما خرجت حواءُ من جنب آدم. عرس المسيح مع الكنيسة تمَّ على الصليب بالدم والماء. يا لمراحم الله!
يسوع قال لتلاميذه: "هذا هو جسدي… هذا هو دمي…" لا أستطيع أن أقول ليسوع: أنت تكذب لأن الخبز لا يصير لحماً. قال: "هذا هو". العبارة أوضح من الشمس. وكان قد قال: "جسدي مأكلٌ حقيقي ودمي مشرب حقيقي". الحقيقي ضد المجازي والرمزي. وقال بولس (ا كور 11): "جسد الرب ودم الرب". فالانحراف عن المعنى الحقيقي الى المعنى المجازي مستحيل معنا.
يعترض البعض أن يسوع لم يكن بعد قد صُلِبَ. يسوع ربٌ يصنع ما يشاء. هكذا شاء وهكذا صنع. لماذا الانحراف عن المعنى الحقيقي الى مخارق التأويل المزيَّف؟ منذ البدء تقدِّس الكنيسةُ الخبز والخمر فيتناولهما المؤمنون. كتاب "الذيذخي" واضح. ثم تلته المراجع جميعاً حتى يومنا هذا.
من يلتهم الآخر؟ السمكة الكبيرة تلتهم الصغيرة. يسوع أعظم منّا. هو، اذاً، يلتهمنا. لا يفنينا بناره الالهية بل يطهِّرنا من خطايانا ويجدّد ما تلف من خلايا بنيتنا في الشرّ والآثام. يقدِّسنا. يؤهّلنا للحياة الابدية.
هو جسد حقيقي ودم حقيقي ممتلئان من نعمة الروح القدس.
كل أعمال الله عظيمة. ولكن كيف يسع فمي مَن لا يسعه الكون؟ إنه تنازل محبةِ الله ليضمَّني إليه أنا عدوه اللدود بكفري وآثامي.
مبدئياً القربان نار آكلة. بمحبته لا يفنيني بل يُحييني. كيف تحيي النار وهي هنا أحرّ من الشمس؟ لو عاش المسيحيون هذا السرّ العظيم لانقلبوا الى ملائكة في الجسد.
في كراستنا "التوبة والمناولة المتواترة" أثبتنا ضرورة المناولة المستمرة لأننا يومياً نهترىء ويومياً نحتاج الى تبديل الهواء. وفي الصفحة 803 من كتاب الصلوات "التعزية الحقيقية في الصلوات الإلهية" تأييد لذلك.
القديس بالاماس يربط المناولة بالاعتراف. بدون الاعتراف لدى أب روحي رصين حكيم نتقوقع ونتناول بدون وعي وعمق واستعداد. بالاماس هو اللاهوتي الأعظم في كنيستنا الارثوذكسية بعد القدامى. علينا أن نطيعه وإلا كنا أرثوذكسيين "على كيفنا" لا على كيف معلمي الكنيسة العظام. بالاماس هو آخر دائرة معارف أرثوذكسية (1359) الذي نقل عنه التابعون. لا لاهوتي بعده إلا من كان على طريقته وفي خطه، وإلا كان لاهوتيّاً مزيَّفاً.
يتمّ تقديس القرابين أثناء إقامة خدمة القداس. يحلّ الروح القدس عليها أثناء ترنيم المرنمين: "إياك نبارك، إياك نشكر يارب، وإليك نطلب يا إلهنا". أثناء ذلك يتضرع الكاهن الى الآب ليرسل روح قدسه على الشعب والقرابين ويحوِّلها الى جسد يسوع ودمه. هنا قمة القداس الاولى. القمة الثانية هي المناولة.
يجب أن يجري كل شيء والروح منسحقة خاشعة تائبة لا تسجد إلا ليسوع. لا نستطيع أن نعبد ربَّين وإلاّ خذلَنا يسوع وصرفَنا الى جهنم. لا مفرّ من الدينونة وجهنم. الكون برمته أرخص من قشة التبن بالنسبة لمجد يسوع. علينا أن ننحر ملذتنا ورغباتنا لنكون ليسوع. أمام القبر، الملوكُ أجبن من الفئران. لا مفرّ ابداً.
القاموس الفرنسي الكاثوليكي الحديث ذكر أن كنيسة روما استمرت على مناولة الاطفال حتى القرن الثاني عشر. وذكر أن هذا النظام استمرَّ في الشرق المسيحي الارثوذكسي. وتوقَّع أن تُعيد الصِلات العضوية القائمة بين أسرار المعمودية والميرون والقربان كنيسةَ روما الى النظام القديم المحفوظ لدى الأرثوذكس[2]. وذكر تيكسيرون الكاثوليكي تزامن الأسرار الثلاثة في حياة الاطفال[3]. وذكر بنوا البروتستانتي مناولة الاطفال في القرن الثاني[4]. ويلحّ اوغسطين في 5 مواضع على ضرورة تعميد الاطفال ومناولتهم بعد المعمودية فوراً[5]. ولذلك يبقى أن نرجو عودة روما إلى الاصل القديم. فلا موجب لتأخير المناولة عن يوم المعمودية. بدأت المسألة في فرنسا في 1196 ثم قررها مجمع لاتران 1215 في المادة 21.
يسوع نفسه علَّمَنا أن جسده ودمه يمنحاننا القيامة والحياة الأبدية (يوحنا 6). يمنحاننا عدم الفساد، يحمياننا من هجمات الشياطين. يزرعان يسوع فينا. يمزجاننا بيسوع.
والطفل لا يحتاج الى اعتراف وتوبة. فلماذا تتهاون الأمهات في جلب الأطفال الى الكنيسة ليتناولوا؟ هل يهملن قوتهم الروحي دهراً؟ المناولة أفضل من الحليب والخبز للطفل وللرجل.
إن أمهات هذا الزمان هنَّ أمهات الجسد لا أمهات الروح. هنَّ أمهات الانسان –الحيوان، لا أمهات الانسان- الروح. يدلّلن الأطفال بل يُفسدن الأطفال بالأطعمة والاشربة واللباس والبذخ والحياة الداشرة بلا ضمير مسؤول. إنهنَّ يقتلن أرواح اطفالهنَّ. إنهنَّ يسلمن أولادهن الى الشياطين وجهنَّم. سيكون حسابهن عسيراً في يوم القيامة عن هذا الإهمال كما عاقب الربُ الكاهنَ عالي عن إهماله تربية ولديه[6].
التسليم – يسوع سلّم التلاميذ (والتلاميذ سلَّمونا، خلفاً عن سلف) أن الخبز والخمر هما جسد الرب ودمه. الروح القدس – بصلاة الاسقف أو الكاهن – يحوّل الخبز الى جسد الرب والخمرَ إلى دم الرب. يا لمعجزة المعجزات جميعاً! ما هذا ربي؟
الخبز جسده – أنا أرى خبزاً وخمراً. ولكن أعرف أن يسوع قال إنهما جسده ودمه. إيماني بكلامه أصدق من عيني وفمي وحلقي. هو صادق، أما أنا فكاذب.
الأسرار الثلاثة معاً – وكانت الكنيسة وما زالت تمنح المعمودية والميرون والقربان في آن واحد، للاطفال والكبار. لا تمييز في المعاملة. هذا موقف الكنيسة الدائم.
وليس في تاريخ اللاهوت المسيحي عند آباء الكنيسة ما يقول بتأخير مناولة الاطفال إلى سنّ معينة. بل العكس هو الصحيح: الكنيسة كانت قديماً تمنح الأسرار الثلاثة معاً. فالمعمودية هي السر الاول. قد نعمّد الطفل وهو في حالة الخطر بدون أن نؤمن له الميرون والقربان. ولا يجوز أن يناول الكهنة أحداً قبل ان يعتمد. فبالمعمودية لبس الطفل يسوعَ. فما المانع من أن يتناول جسد يسوع ودمه؟[7].
البقاء على عوائدنا الرسولية القديمة هو عين الصواب. لن نحيد عنها.
مسؤولية الامهات – كبيرة بعد المعمودية. فعليهن أن يجلبن أطفالهن الى الكنيسة دائماً، ليتناولوا القربان القدوس، ليبقوا في حماية يسوع وبين يديه. فالقربان أفضل لهم من الحليب.
أما أعذار النساء فواهية: يعتذرن بالبرد. أما يغسلن الطفل منذ مولده؟ يعتذرن ببكاء الاطفال. فمرحباً بالبكاء ما داموا يتناولون. يعتذرن بانزعاج المصلّين. ما أحلى هذا الانزعاج! يعتذرن بضيق الوقت. ما أتفه هذه الأعذار! فلتحضر الأمهات خاتمة القداس، ويتقدّمن من كأس القربان لمناولة أطفالهن. لا يحتاج أطفالهن الى حضور القداس الالهي برمته مثلهنَّ. يكفي وجودهم أثناء خروج الكاهن حاملاً الكأس المقدسة. فالمحبة هي محبة الروح اولاً ثم الجسد ثانوياً.
صلاة: فيا ابن الله، يسوعنا الحبيب، الذي تناوِلُنا جسدك ودمك، بدون أن نكون من أكلة اللحوم البشرية، أنت تعلم أننا خاوون من كل ذرة استحقاق لها! ولكن كيف يظهر فضلك ويختزي عارنا وشنارنا[8] إلا في ملامسة مجدك – الذي لا يُحَدُّ ولا يُقاس – لخزيي الذي لا يُحدُّ أيضا ولا يقاس. فأنتَ في أقصى نهاية الايجاب بل في أعلى وأبعد منها. أما أنا ففي نهاية السلب. فكما تتولد الكهرباء من اجتماع الموجب والسالب، اجمعْ موجبك إلى سالبي، اجمعْ بِرّك الى خزيي لكي تحترق خطاياي وتتطهّر نفسي الغارقة في بحر اليأس. طبعاً، دنسي لا يؤذيك إنما يحترق متى لامسَتْه نارُك.
فوق الفهم – فسِرُّ جسدِكَ ودمِكَ طَمَسَ كل حدود الفهم والإدراك، وخصَّ المتأمِّلين بعمقٍ بالغيبوبات عن عالم الذلّ والهوان. إنه يمنحنا جناحين للطيران. فلا تحرمْنا منهما.
المناولة اليومية – وصار معلوماً أن آباء الكنيسة دعوا الى تناول القربان يومياً بشرط التوبة الصادقة المصحوبة بالاعتراف.
30 – القداس الالهي
القداس الالهي أهمّ عمل يجري في الكنيسة. هو "معاينة" التدبير الإلهي الصائر لأجلنا (سمعان السالونيكي، مين اليوناني 728:155). هو تلخيص لكل حياة الكنيسة. فالكنيسة هي جسد المسيح. والمسيح هو رأس الكنيسة. والصليب هو عماد الكنيسة.
القداس الالهي هو ما يلي: يجتمع المؤمنون حول الأسقف أو الكاهن، لينقطعوا عن الدنيا، وينصرفوا الى الله. يقرِّب الشعب نتاجَ الأرض، أي القمح المتحوِّل الى خبز، والعنبَ المتحول الى خمر. يتناول الكاهن هذه التقادم ويصلّي عليها. يتعاون معه الشعب في الصلاة. تنصرف العقول الى استدعاء الروح القدس على الخبز والخمر ليصيرا جسد الرب يسوع ودمه. حلول الروح القدس على القرابين هو تنازل إلهي نحونا. صيرورة الخبز والخمر جسداً ودماً هي أقوى مراحم الله في اتجاهنا. كل العجائب هي شبه ظلٍ لهاتين العجيبتين: الروح القدس ينحدر ويحوّل الخبز والخمر الى ذبيحة الصليب الناهضة من القبر.
نحن – اذاً – في عنصرة تُعيد أمام أعيننا سرَّ ذبيحة الجلجلة وسرَّ القيامة من القبر. ننتقل الى علية صهيون حيث دفع يسوعُ إلى الرسل جسدَه ودمَه وأرسل روحَه القدوس يوم العنصرة. ولكن نحن في علية السماء لا في علية الارض. فالطبيعة السماوية لعبادتنا واضحة جداً في رؤيا يوحنا الانجيلي. وشروح خدمة القداس لدى الآباء تنصبّ على هذه الصفة السماوية. خدمة القداس نفسها تركز على حضور الملائكة وتدعونا إلى الالتحام بهم لتقديم الذبيحة على مذبح يسوع السماوي. ففي الرؤيا يسوعُ هو الهيكل والمذبح والخروف المذبوح ورئيس الكهنة والملك والاله. والتسبيح له والعبادة مرفوعان في السماء.
ولذلك نحن لا نحتفل في القداس بيسوع المائت بل بيسوع الذي حبلتْ به العذراءُ، المولودِ في بيت لحم، المتجولِ في فلسطين، المصلوبِ في الجلجة، المدفونِ في قبر يوسف الجديد، الناهضِ من القبر، الصاعدِ الى السماء، الجالسِ عن يمين الآب. رئيس كهنة العهد الجديد يشفع فينا ويتمّم بروحه القدوس، مع أبيه السماوي، تحويلَ الخبز والخمر الى جسده ودمه. هو حاضر أمامنا بجسده ودمه (القربان) فننظره بأعيننا مسيحاً كاملاً، كما ذكرنا. ننظر آلامه وذبحه ومساميره ودمه وموته وقيامته وصعوده، نراه برمته منذ تجسّده من العذراء يوم البشارة حتى جلوسه الأبدي عن يمين الآب[9].
فلا غرابة أن نسمّي هذا السر: سرَّ الشكر، ذبيحة الشكر. كيف لا نشكر الآب السماوي على هذه العطية التي ترتعد من هولها الملائكة؟ يسوع شَكَرَ وبارك لما أعطى تلاميذه جسده ودمه، فعلَّمَنا أن الذبيحة ذبيحةَ شكرٍ لله على أعظم مراحمه.
فيا يسوع! لساني عيّ وقلبي نجاسة. ولكن روحك القدوس ارتضى أن أكتب في أمرك وأمر ذبيحتك.
الأرض تقدم نتاجها: الخبز والخمر.
الله يقدِّم حلول الروح القدس.
الموقف رهيب جداً. إنما العادة أفقدتْنا الشعور بالرهبة. في لحظة حسَّاسة يرفع الكاهن القرابين ويقول: "التي لك، ممّا لك، نقدّمها لك، في كل وجه ومن أجل كل شيء[10] Kata panta Kai dhia panta (باليونانية). والمعنى هو أن هذه القرابين هي لك ومستخرجة من الأرض التي هي أرضك. فنحن نقدِّم لك قرابين هي ملكك. جاء في المزامير: "للرب الارض وملؤها، المسكونة والساكنون فيها" (المزمور 23/24: 1).
في كل وجه – ونقدِّم لك هذه القرابين في كل وجه ومن أجل كل شيء. في الأصل اليوناني سجع بديع يعطي العبارة شمولاً لا يتضح في الترجمة العربية كما في اليونانية. والترجمة الفرنسية: En tout et pour tout. ماذا نعني بعبارة "في كل وجه"؟ نعني وجوه الالتماس، والطلب، والتسبيح، والتمجيد والشكر، والاستدعاء، وتقديم الضحايا والنذور.. فذبيحة الصليب شاملة تذهب في كل الاتجاهات، وتنفع من كل وجه: نستدرّ بها غفرانَ الخطايا، والمراحمَ والنعمة الالهية، وكلَّ العطايا السماوية وكلَّ ما يمكن أن يلتمسه إنسان ما من الله. لا حدود اطلاقاً لفاعليتها وأسباب تقديمها. إنها ذبيحة عامة، إنها ذبيحة الصليب.
من أجل كل شيء – "ومن أجل كل شيء". هذه العبارة متصلة بالعبارة السابقة، فنحن نقرّب هذا القربان ذبيحة عن كل شيء، ليلبِّي الله لنا طلباتنا المقدَّمة من أجل كل انسان أو هدف أو، أو، أو.. من أجل الكون.
صيغة الشمول – صيغة الشمول العام واضحة في هذه الترجمة وفي هذا الشرح. فذبيحتنا ذات شمول مطلق يجمع كل وجوه التضرع والتقرب الى الله من ابتهال وتسبيح وشكر وسواها، لأجل العالم بأسره، من انسان وحيوان وجماد. إنها "ذبيحة كونية"[11] عن الكون برمته. هي من هذه النواحي تذكِّر باستعمالنا لفظة "جامعة" للكنيسة: يسوع ملءٌ يملأ الكنيسة، يملأ الكون. وكذلك ذبيحتنا هي التي تحيي بيننا ذبيحة الصليب القائمة في وسط العالم لخلاص العالم برمته، لتقديس الخليقة بأسرها. وهكذا يتضح طابع تقدمتنا الجامع المانع[12] الشامل لكل شيء. الكون كله ماثل فيها. بتقديمنا مادَّتين من الارض أي القمح والخمر ليتحوَّلا إلى جسد الرب ودمه، تمثُل ذبيحةُ الصليب. نقدم الأرضَ وملأها كذبيحة لله، لكي يحوّلها الروحُ القدس إلى جسد يسوع ودمه. وهي ذبيحة شكر. فيسوع شَكَرَ وبارك الخبز والخمر.
التحويل الأكبر – هذا التحويل هو مقدمة للتحويل الاكبر الذي يطرأ على الكون برمته في يوم القيامة المجيد، لتظهر الارض الجديدة والسماوات الجديدة (رؤيا يوحنا، رسالة بطرس و..و..). إنما نبدأ بالتحوّل منذ الآن.
الكون في الصينية – ويدعمنا في هذا الشرح عملُ الكنيسة. فالكاهن يضع خاتم القربان في منتصف الصينية ومن حوله أجزاء تمثّل العذراء مريم، والقديسين المنتقلين، والملائكة، والأموات، والأحياء من اكليروس وعلمانيين. وهكذا يتمثل الكون حول يسوع، مركزِ دائرة الاحياء والأموات، قلبِ العالم بأسره[13].
أطلنا. ولكن هل يستطيع هذا القلم العاجز إيفاءَ الموضوع حقه؟ فذبيحة القداس تذهب بكل عقل. إنها روعة مراحم الله.
صلاة: فيا ابن الله! ادهنْ جباه الناس أجمعين بدم هذه الضحية المباركة لكي تتحول رؤوسهم من التمرُّغ في النجاسات إلى الذهول بك والهيام بك. ادهنْ به جراحنا النازفة جميعاً، فإننا صرنا على الرَّمق الاخير، ولا نجاة إلا بدمك وروحك القدوس. فضمّد بهما أرواحنا وأجسادنا للشفاء من أمراض النفس والجسد.
تضرُّع الكاهن – ولنعد إلى سياق القداس: يعقب ذلك تضرُّع الكاهن داخل الهيكل وتضرع المؤمنين خارجه لاستدعاء الروح القدس. يلتمس الكاهن أن يتحوَّل الخبز والخمر الى جسد الرب ودمه، فيجاوب الشعب خارجاً: "آمين". فالتضحية هي فعل مخلصنا نفسه. هو نفسه يضحِّي. هو المضحَّى (الذي يضحّيه) كهنتُه وخدَّامه" (سمعان التسالونيكي، مين اليوناني، 242:155 آ و181د).
الشعب والكاهن واحد – فالشعب والكاهن متحدان في شركة التضرع الوثيقة، في عمل استدعاء الروح القدس. لذا اعتبر كليمان الشعب مشتركاً في إقامة الذبيحة، أي يقوم بها مع الكاهن Co-liturges[14].
القربان متَّحد بالنعمة الإلهية – وترنو عيون الكاهن والشعب الى الجسد والدم المجيدَين المتحدَين بالألوهة، الحاملَين للروح القدس والنار، ليتناولوهما ويمتزجوا بهما، فيمتزجوا بيسوع[15]. ففي هذا السر الرهيب تتجلّى الكنيسة في أبهى جلاء: يسوع في المؤمنين والمؤمنون في يسوع. هم الجسد والأعضاء وهو الرأس.
تقدمة الشعب – ولذلك فعادة تقديم الشعب الخبزات (القربانات) عادة محمودة جداً. فإن الكاهن يأخذ إحداها للذبيحة والباقيات لذكر الأحياء والأموات ووضع أجزاء عنهم من الخبزات في كأس الرب ودمه. وهكذا يحضر الكونُ كله في دم المسيح. كما قلنا: الذبيحة عامة شاملة.
الروح القدس في القربان – قال افرام السرياني إن الروح القدس والنار موجودان في المعمودية وفي الخبز والخمر[16]. فالله نار ونور: يحرق خطايانا وينير قلوبنا.
مناولة الغائبين – وكانت الكنيسة الأولى حريصة على إيصال الخبز والخمر الى الجميع، فيوزعهما الشمامسة على الحاضرين، ويحملونهما إلى الغائبين بسبب مرض أو سواه[17]. ففي القداس يتحلّق الملائكة والبشر حول ذبيحة الصليب الممجَّدة[18].
الزواج والقربان – سر الزواج مرتبط – قديماً – بسر القربان المقدس الالهي وخدمة القداس الالهي. فحواء خرجت من جنب أدم. والكنيسة عروس المسيح خرجت من جنب يسوع المطعون بحربة. خرج دم وماء: أي المعمودية والقربان. هما السرَّان الأساسيان.
لا تفريق – الكتاب المقدس قال بأن الرجل هو رأس المرأة كما أن يسوع هو رأس الكنيسة، وأن الله يجمع بينهما. ومَنَعَ التفريق بينهما لأن الله قد جمعهما. والكنيسة تقول إن الرجل شخص (أقنوم) والمرأة شخص (أقنوم).
وفي عرس قانا الجليل حضر يسوع وحوَّل الماء إلى الخمر.
في هذا المناخ، ما هو سرّ الزواج؟
الاثنان واحد – اتفاق الزوجين ضروري لانعقاد الزواج. ولكن الوثنيين، قبل المسيح وبعده، كانوا يعقدون الزواج بتراضي الزوجين. فهل يكون زواجهما سِراً من الاسرار؟ لا. صلوات الكاهن هي التي تمنح الماءَ قوة التوليد في المعمودية، وتحوّل الخبز والخمر الى جسد الرب ودمه. وصلاة الكاهن في الزواج هي التي تجعل الزوج رأس المرأة كما أن المسيح هو رأس الكنيسة، وتجعل الاثنين جسداً واحداً. طبعا الكاهن يعمل بالنيابة عن الروح القدس، الفاعلِ الأصلي.
ومرَّ معنا أن المسيح أعاد إلينا وحدة الطبيعة البشرية المهشّمة لما صيّرنا أعضاء جسده الواحد.
الزوجان كنيسة – فالزوجان الصائران جسداً واحداً هما – اذن – كنيسة. وكما مرّ معنا: هما أقنومان في جسد واحد. كما أن أعضاء الكنيسة هم أقانيم في جسد المسيح الواحد.
جسد واحد وأقنومان – في يسوع هما جسد واحد، لأنهما عضوان في جسد المسيح. ولكنهما شخصان لا شخص واحد. لا يصير شخصان شخصاً واحداً. جسدي جوهرٌ وروحي جوهرٌ. هما في شخصي متحدان. الاتحاد يتم بين الجواهر والطبيعات (كطبيعتَي المسيح) لا بين الاشخاص.
ولكن الزوجان المسيحيان الحقيقيَّان يتناضحان بالمحبة والحميمية في الصميم باسم يسوع لا باسم الجسد والمصالح العالمية فقط. ولا يحب أحدهما الاخر وأولادهما حباً أنانياً، بل باسم يسوع. تعلقُ كثيرٍ من الوالدَين بأولادهما هو امتداد لأنانيتهما وفرديتهما وعزلتهما وانكماشهما، لا علاقة له بالحب المثالي. ليست محبتهما هذه ثمرة من ثمار الروح القدس (غلا 22:5). هي عاطفية بشرية قد تُدهن خارجياً باسم يسوع. الفضائل المسيحية هي ثمار الروح القدس وسط معاركنا مع قوى الشر لتحويل طاقاتنا العشقية الغرامية الى يسوع، فنحبّ الناس لأجل يسوع. الدينونة ستكون بحسب أعمالنا (متى 27:16 و31-46…) لا بحسب فصاحتنا.
وقد عالجتُ في "سر التدبير الالهي" (ص 78-79) المساواة بين الرجل والمرأة.
في الكنيسة – وليست وحدتهما صورة فقط عن وحدة يسوع والكنيسة. إنما هي وحدة قائمة في الكنيسة. هي جزء لا يتجزّأ من اندماجهما في جسد يسوع. وبيتهما هو كنيسة صغيرة مثل بيت الرسول اكيلا وزوجته بريسكلا. وكل علاقاتهما الزوجية تقوم على أساس عيشهما المشترك في يسوع. ومحبة كل منهما للآخر هي امتداد للمحبة المتبادلة بين يسوع والكنيسة.
ركنا الزواج – ولذلك فالزواج يقوم على ركنَين:
1- نعمة الروح القدس التي تحلّ عليهما – بفضل صلاة الكاهن – وتصنع الزوج رأساً للزوجة، والزوجةَ جسداً لزوجها، وتصنع من الاثنين واحداً وجسداً واحداً في يسوع. فليسا هما بعد اثنين بل واحداً.
2- تراضي الزوجين البالغين الناضج والواعي والحرّ على الزواج باسم يسوع ولمجده، وذلك بعِلم الكنيسة وتحت إرشادها الرصين. الخطيبان التقيَّان يتّفقان بعِلم الكنيسة وإرشادها.
العيش الطاهر – ومع هذا فالزوجان ملزَمان بموجبات العيش الطاهر البريء من الرغبات الشائنة[19].
فالطعام حلال. ولكن الشراهة خطيئة في الطعام وسواه. وسلطة كل من الزوجين على جسد الآخر تامة، الا أن اساءة الاستعمال خطيئة. فجسد كل من الزوجين مقدَّس. على كل منهما أن يحترم جسد الآخر وشخصه.
كل منهما شخص – كل شخص منهما هو صورة الله. أدخلتْ الخطيئةُ التمزقَ على الانسان، والتناحرَ بين شريعتي الروح والجسد. فحُسنُ الانضباط والادارة يتطلب قيادة. فرسم بولس الرسول أوَّلية للزوج. وهي في مصلحة الزوجين، حتماً، روحياً واجتماعياً وجسدياً. فالرجل رأس والمرأة جسده.
التفرغ للصلاة – ويوصي بولس الرسول أن يتفرّغ الزوجان للصلاة بالتراضي، فيتفقان من أجل الصلاة على الانقطاع حيناً (كوزنثوس الاولى 1:7-7). غريغوريوس اللاهوتي استعمل لهذه الفترة عبارة:"الامساك الدوريّ، الصادر عن تراضٍ متبادل للتفرغ معاً للصلاة أثمن الوان النشاط"[20].
الرهبان والمتزوجون – وهكذا لا تبقى البتولية وقفاً على الرهبان، بل يمارسها المتزوجون بصورة دورية حينما ينقطعون للصلاة. فالمسيحية شريعة كمال (متى 48:5). تدعو الجميع الى الكمال. ولذلك لا يمكن التفريق بين الرهبان والمتزوجين. الطرفان خاضعان للواجبات الواحدة بعينها دون تمييز. وهي لا تقبل أَنصاف الحلول ولا قسمة العيش الى وقتين: وقت للرب ووقت لغيره. فكما قال باسيليوس: المسيحية ذات اتجاه واحد Monotropos. وكل من اعتمد فقد التزم بعيشٍ مسيحي كامل: أن يكون مثل المسيح. كان الذهبي يقود المتزوجين الى الاديرة ويحرّضهم على تنظيم الحياة في بيوتهم على غرار الرهبان[21].
وفي أيام الاضطهادات كان الاستشهاد هو الكمال المنشود في المسيحية. زال الاضطهاد فتراخى الناس ووجدوا لأنفسهم أسباباً لا تُحصى للتراخي والتسامح مع أنفسهم وتبرير إهمالهم وكسلهم وفتورهم الروحي. سدَّ الرهبان بعض النقص. ولكن بقي النقص فاحشاً. وصار المسيحيون مزيَّفين جبناء متراخين. فقدوا البطولة الروحية، فقدوا الرجولة، فقدوا المروءة والنخوة، فقدوا الإقدام والبسالة، فقدوا كنه الوجود.
ونخلص الآن إلى القول مع الذهبي الفم إن الخلاص ليس مُلكاً للرهبان دون المتزوجين. بولس قال إنه لكل منهما دعوته (كورنثوس الأولى 7:و17). هدف الراهب الطهارة في البتولية، وهدف المتزوج العفة في الزواج. وفي تاريخ القداسة تزوَّج قديسون وقديسات وبقوا متبتلين. ومنهم حديثاً القديس يوحنا كرونشتات الروسي (1908) والخوري الشهيد حبيب خشه (1948). هذه درجات مثالية. ولكن تطبيق البعض لها يبكّت المتراخين الفاترين.
الزواج الثاني – وسمح بولس بالزواج الثاني على مضض[22]. وكذلك غريغوريوس اللاهوتي[23]. أما باسيليوس الكبير فرتَّب قصاصاً على من يتزوج ثانية، يتراوح بين سنة وسنتين من التوبة[24].
ويعتبر باسيليوس المذكور الزواجَ الثالث نجاسة يُخضع صاحبه لقضاء خمس سنوات في التوبة[25]. أما صديقه شيخ اللاهوتيين غريغوريوس فاعتبر الزواج الثالث إثماً. واعتبر الرابعَ عمل صغار الخنازير.
تعدد الزوجات – لا حاجة لطرح موضوع تعدد الزوجات. فهو محرم كلياً. يسوع واحد وكنيسته واحدة. ولذلك زوجٌ واحد، وزوجةٌ واحدة. والمخالف يرتكب أشنع الامور. فالحياة الزوجية صليب.
حُسن اختيار الازواج – وما دامت الأمور بهذا المستوى الروحي العالي، فالمطلوب في الشباب والصبايا أن ينشد بعضهم في البعض الآخر سموَّ الاخلاق، ليقضيا العيش المشترك (الطويل في التقدم الطبي)، متعاونَين في السرَّاء والضراء، بلا مشاحنات، ولا ضجر، ولا ملال. ولا ينخدعْ أحد لا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالجمال، إن لم يكن موسوماً برفعة الاخلاق. وهذا ما لحظه المثل العامي: "من ياخذ القرد على ماله يذهب المال ويبقى القرد قباله". ولله درّ سيدة غالية رفضت غنياً، فردَّت على العازلين اللوَّامين بأن مصادر ثروته غير مشروعة… هكذا فلتكن الصبايا الرزينات.
فليقرأ الشباب نهاية سفر "الامثال" في الكتاب المقدس ليتعلَّموا كيف يفتشون عن الزوجة الموافِقة التي تصبر عليهم في السرَّاء والضرَّاء، وترحمهم، وتراعي ظروفهم، وتقاسمهم همومهم، وتفرّج عنهم كربتهم. عرفتُ من يدسْنَ الزوج في محنته ويصلبنه. وعرفت القديسات في الخدمة.
ما اكثر فرائس التفاهة والقشور! وما أقلَّ ناشدي العمق! فالعيوب الاجتماعية، وشكليات الزواج المعقَّدة، وحبّ المظاهر الامبراطورية، وكلفة الزواج الباهظة، تَصرف كمية من الشبان الى تأخير زواجهم. والخاسر الأكبر هو الصبايا، فيضطررن إلى إبرام عقود زواج ناجح، والى القبول – احياناً – بفارق سن (مع الزوج) غير معقول. فالزواج في سن معقولة مع زيادة عمر الزوج بقدر نسبي معقول يؤمن لقاء شاب وفتاة متقاربين في السن، في مستهل الصبا: أي وهما ليِّنا العريكة لا قاسيان. المستفيد الأكبر من هذا هو أطفالهما الذين يربون معهما، برفق ولين، لا بخشونة وقساوة.
فان كانت الام ليِّنة بعد، وسنّها قريب نسبياً من سن طفلها، امتاز طبعه بالمرونة واللين. الطفل يمتص غضاضة أمه الفتية ويَبَسَ أمِهِ الطاعنة في السن. وتزويج الفتاة باكراً من شاب كفؤ يريحها من القلق على مصيرها، ومن التعقيد النفسي، ومن عُسر العيش مع انسان لا يلائمها بعمره.
فهل الناس مستعدون للتخلي عن أخطائهم، ومظاهرهم الفارغة، ومطاليبهم التعجيزية لنحمي شباننا من التشتت، وفتياتنا من القلق والملال واليأس والبؤس؟
إننا عبيد التقاليد، لا عبيد الحقيقة والعلم. ومرض العظمة وباءٌ عام. كل فرد يريد أن يظهر بمظهر الامبراطورية ولو بالاستدانة، او الاختلاس، او الرشوة، او السرقة، او الاحتيال والغش في التجارة والاعمال والمعاملات. والزوجات لا يسألن الازواج عن طهارة مواردهم المالية، لأنَّ همَّهن محصور في عيش البذخ مثل أميرات قصور الانحلال.
ولذلك يبقى من العسير أن يتجلّى يسوع في مجتمع معيب.
فما يدعوه سواي "المجتمع المسيحي" أدعوه أنا "المجتمع المزيف".
ولكن أن يسعى الزوجان سعياً صادقاً نحو يسوع كان كل منهما سلَّماً يتسلقها الآخر الى يسوع.
كيف؟ يوحنا السلمي لفت نظرنا الى عشق الله كما يعشق ابنُ الدنيا ابنةَ الدنيا. اذن: إن نما عشق الزوج والزوجة المتبادل في مخافة الله تحوَّل لهيب عشقهما الأرضي إلى نار لاهبة من العشق الإلهي.
ان الانسان يحب الله عبر حبه للآخر. والزوج أقرب "آخَر" الى زوجته. خلقهما الله ليتحابّا. بقي أن يكون الله طرفاً ثالثاً في محبتهما.
وينشد الناس في الزوجة الأمانةَ الزوجية. بدون التقوى العميقة، الأمانةُ، والوفاءُ، والامتناعُ عن الغدر والمكرِ والغشِ "حديث خرافة يا أم عمرو". يحتاج الوفاء الى نبلٍ عميق في الروح. هذا وقفٌ على الأتقياء. ينخدع الشباب بمعطيات جسدية، فيندمون عاجلاً أو آجلاً. ليس الزواج جسداً فقط، بل اندماجاً روحياً. العِشرة طيلة 40-70 عاماً مستحيلة بدون اندماج الزوجين. وحين التعارض بين معطيات الإيمان والتجارب الجسدية يحتاج الرجل الى البطولة الروحية. المرأة التقية أقدر عليها.
في عالمنا الحاضر المفسود بالمغريات صرنا بحاجة الى صبايا فارسات في التقوى والخلق القويم ليطهِّرن المجتمعَ من رجس التلفزيون والفيديو وكلِ أسباب الانحلال. متى صلُحت النساء صلُح المجتمع ولو نسبياً (راجعوا كتابنا: المرأة في نظر الكنيسة). قالت لي صبية غالية ما قالت. أجبتها: "ليس هذا هو السبب. الشباب يفضلون السهلة المنال على العفيفة الممتنعة". تسيّرهم أهواءُ الجسد، فيولولون بعد الزواج. الجنس جزء من الزواج وليس الكلّ. الاندماج الناجح ضمانة السعادة الزوجية والاستمرار. وتوقّي أسباب الفشل، في سعة صدر كلٍ من الزوجين وتعلُّقه الصادق الشريف بالآخر. على الشباب قمع الخفَّة في اختيار الزوجات.
الشذوذ – وتبقى نقطة جديرة بالمعالجة نظراً لأهميتها في الاخلاق المسيحية.
ذكرنا واجب الطهارة في العلاقات الزوجية، والتفرغَ للصلاة، وتساوي الرهبان والمتزوجين في الواجبات. فالله واحد للطرفين.
ولكن ما هي حقوق الزوجين على جسد كل منهما؟
ان بولس الرسول قبَّح في رسالته (رومية 1و.. و..) الإنحرافات الجنسية. وفي علاقات الزوجين، الانحراف ممنوع. وهو خطيئة أفحش من الزنى. ونعرف قصة غضب الله على سدوم وعمورة. فلا يجوز للزوج أن يسيء استعمال زوجته. وعلى الزوجة أن ترفض طلبات الزوج المنحرفة وتشكوه إلى الكهنة فوراً للتدخل السريع بدون إمهال. فالله تنازل لضعفنا، فسمح بالزواج، لتوقّي التحرّق: "الزواج خير من التحرّق". وإنما نهانا نهياً قاطعاً عن موبقات الشذوذ. انه شر كبير مستطير. بسببه حلَّ غضبُ الله على شعوب. وتجب مكافحته في الزواج وخارجه، فانه لهيب خارجٌ من جهنم. فالزاني قد يتوب يوماً، ويصبح بطلاً في الطهارة والقداسة. وقد يصبح راهباً متصلباً، وقد يصبح زوجاً مثالياً. أما المنحرف فلا يصلح لا للرهبنة ولا للزواج إلا نادراً. يحمل في رقبته قرار هلاكه، الا اذا رحمه الله وهداه الى التوبة. وتوبة المنحرفين أعسر بكثير من توبة الزناة.
وفي جميع الاحوال المنحرفون والمنحرفات هم، إجمالاً لا قطعاً، غير صالحين للرهبنة. وكتب الطب والتحليل النفسي تعتبر الانحرافات الجنسية عسيرة الشفاء جداً. إنها مرض عضال. والمبتلون بها لا يلجأون إلا نادراً جداً الى الاطباء المختصين. وأثناء ممارسة المحاماة وقفت على الكثير الكثير من أحوال الشذوذ، لدرجة أن رئيس محكمة الجنايات في اللاذقية الدكتور رشاد القدسي حكم مرة بعشرين سنة من الأشغال الشاقة على ابن 53 سنة قد دخل السجن 7 مرات للسبب نفسه. ربما مات في السجن.
مسائل الجنس حسَّاسة جداً. ولا ينتصر فيها إلا المحتمون والمحتميات بالله. أصحاب الضمائر النارية الحرة الأبيّة الأبطال الأشاوس هم أحباء الله المنتصرون على ضعف الجسد سواء كانوا متزوجين أو رهباناً. بدون ضمير قطّاع أكثر من السيف المحمي، كل الأخلاق نسبية. ولكن لا بدَّ لهذا الضمير من أن يكون داهية في الحذق والفطنة ورحابة الصدر وإلا قتل صاحبه. "حربوق" شريف نبيل صدره أرحب من السماوات. تتعدّل صرامة الضمير برحابة الصدر، وسعة الافاق، والحنكة، والحذق، وحسن التدبير العاقل الحكيم. والا طاشت الأسهم وسقط المرء في التطرف الاعمى، فيقع مرضَّضاً. حتى يوحنا الذهبي الفم تطرَّف فتدارك بالتداوي. ولذلك المرشدون الروحيون كرهبان جبل آثوس ضروريون كالخبز والماء والملح.
والإرشاد الروحي مؤسسة أصيلة يخضع لها البطاركة وسواهم. كان القديس ايسيذوروس رئيس دير الفرم على البحر الاحمر (عيده 4/2) مرشداً روحياً لللاهوتي الكبير القديس كيرللس الاسكندرية، فأزال ما علق في صدره (عن خاله سلفه ثيؤفيلوس) من عداءٍ للذهبي الفم، فأخذ كيرللسُ يطالع كتب الذهبي ويتأثر بها. وكان انطونيوس الكبير ملاذ اثناسيوس الكبير. وقاد مكسيموسُ المعترف، الراهبُ، المسيحيين في شمال افريقيا إلى عقد مجامع بالجملة ضد هرطقة المشيئة الواحدة والفعلِ الواحد. وقفز الى روما فحمل البابا الشهيدَ مرتينوس على عقد مجمع لاتران 649 ضد الهرطقة، فسخط الامبراطور. وبقي تاثيره حياً في روما حتى البابا القديس أغاثون الذي فرض على الامبراطور قسطنطين الرابع عقد المجمع السادس المسكوني (680-681). وعقد في روما مجمعاً يشجب الهرطقة. وحمل مندوبوه رسالة طويلة تحوي استشهادات من آباء الكنيسة (مانسي، المجلد 11) لصالح الايمان بالمشيئتين والفعلين. ويرى النقاد اليوم أنها من آثار مكسيموس الراهب الاعظم. وكان أساقفة وكهنة وعلمانيون يلجأون الى القديسَين برصنوفيوس ويوحنا في دير الأب ساريدون (برية غزة، القرن6). رسائلهما طافحة.
وحديثاً: وقع خلاف بين الأب يوحنا رومانيدس وزميله على نقطة، فرفعا الامر الى المجمع المقدس في أثينا، فأحال المجمعُ الامر إلى الاب بائيسيوس في جبل آثوس، ففصلها لصالح رومانيدس. وكان دير أوبتينا في روسيا هو ملاذ رجال الفكر الكبار، لا المجمع المقدس. ويلجأ الناس في بلاد اليونان الى رهبان جبل أثوس. وينزل رهبان منه أحياناً الى سالونيك وسواها للإرشاد والاعتراف. وفي فلسطين، رئيس دير مار سابا هو الأب المعرِّف للبطريرك. ورأيت بأم عيني في 1947 و1966 في دير القديس لعازر ببيت عينا ما يحاط به من تقديس وإجلال. وفي دير المعزي ببلاد اليونان رأيت بأم عيني الاحترام الذي يحيطون به الكتبةَ الدينيين: رئيساً ورهباناً. فالبطريرك والمطران والكهنة والشعب يعترفون لدى الآباء الرهبان. أما الارشاد الروحي فليس وقفاً على الاكليروس. عندما نقرأ لفظة "الآباء الشيوخ" فلا يعني هذا أنهم كهنة. القديس كاسيانوس ذكر أن الرهبان كانوا موزَّعين على الشيوخ. كل عشرة منهم بقيادة شيخ. طبعاً ليس من كاهن لكل 10. الشيخ راهب محنَّك في الحرب الروحية ضد الاهواء والشياطين. وفي كتاب "سمعان العمودي" يرى المرءُ سلطانَ سمعان على الأباطرة والاساقفة والمسكونة مع أنه ليس بكاهن.
وقريباً يظهر كتاب آخر بعنوان "القديس كاسيانوس". جاء فيه أن 300 من آباء البرية من فئة معيّنة ضالةٍ لاهوتياً بسبب الأمية اللاهوتية هاجموا صرحَ أسقف الاسكندرية ثيئوفيلوس فأرعبوه وغيَّر وجهة حربه اللاهوتية. هذا مع العلم أن التاريخ يسمّيه "فرعون" كنيسةِ الاسكندرية. فالدقة اللاهوتية قد لا تكون من حظ الرهبان. هذه موهبة خاصة بالبعض سواء كانوا اكليريكيين او علمانيين او رهباناً. ايفاغريوس البنطي تلميذ القديس غريغوريوس اللاهوتي ترهَّب في مصر، فترك مؤلفات أثَّرت في كاسيانوس والسلّمي ومكسيموس واسحق السرياني والدمشقي وسواهم. وإنما سقط في هرطقة اوريجينيس. كان القديس برصنوفيوس غزة ناقماً عليه ولكن اعترف بفوائدِ بعض ما كتب.
كان البطريرك العظيم غريغوريوس حداد قد أحضر رهباناً من الروس في جبل آثوس في العام 1910 فأقطعهم[26] ديرَ مار الياس شويا بضهور الشوير. فحلّوا فيه مع أيقونة الصمدة اليمنى لسيدتنا العذراء مريم، الرائعة. خطر له – حتماً – تجديدُ التيار الرهباني عندنا، فحالت الحربُ العالمية الاولى دون بلوغ المرام.
في جميع الاحوال، لابد من التجديد الرهباني على مستوى العالم الارثوذكسي. أما المستوى اللاهوتي فيحتاج، من أجل النضوج روحياً ولاهوتياً، حتى العام 2050 على الأقل. هذا مهنة بشرٍ من مستوى رفيع مثل باسيليوس والذهبي وغريغوريوس وأندادهم، لا مهنة الادعياء والمتطفِّلين.
في كنيسة موسكو في القرن 19، النهضة من صنع الرهبان، لا من صنع المجمع المقدس والاكليروس. بائيسي فيلتشكوفسكي حمل الى روسيا ومولدافيا تراثَ جبل آثوس الذي كان قد نقله في القرن 15-16 القديس نيلوس سورسكي المتوفى سنة 1508. فانتهى الأمر الى صيرورة دير اوبتينا منارةَ روسيا الهادية للاهوتيين وكبار رجال الفكر والادب والفلسفة (راجع ملحق "فن الصلاة" لعدنان طرابلسي).
صولة الرهبان اللامعين تتجاوز الحدود لتشمل عشَّاق الله أينما كانوا. من كل الدنيا يفدون على رهبان آثوس حيث الإرشاد الروحي أجود الموجود. فالخبرة الروحية لديهم أجود غالباً. وكل أكليريكي ورع يتشرَّف بالاعتراف لديهم.
الكهنوت
مباركة كل شيء – ليس في القديم تعدادٌ كامل للأسرار المقدسة. فهي لا تنحصر بالرقم 7. فالكاهن والأسقف يباركان كل شيء، باسم الآب والابن والروح القدس.
كهنوت المسيح – الكهنوت هو جزء من كهنوت يسوع، رئيسِ كهنتنا العظيم. الكاهن مساهِم في كهنوت يسوع.
درجات الكهنوت – درجات الكهنوت 3: الأسقفية، القسوسية، الشماسة.
يقيمهم الروح – يقيمهم الروح للخدمات الدينية. يمارسون علينا الأسرار المقدسة. من وظائفهم الهامة الوعظ والتبشير[27]. يقدِّسون أنفسهم ويقدِّسون الآخرين. يكفيهم هذا الشرف، إن أدَّوه حقه الواجب من الرعاية والعناية. الخير يفيض لنا من أيديهم. هم رعاة يرعون الشعب.
في سفر التكوين قيل إن حواء دُعيت حواء لانها أمُّ كل حيٍ. هي ولدت أجسادنا.
فضل الروحي – أما أبي وأمي فولدا جسدي وأما الكاهن فيلدني روحياً. إن أدركَ ووعى ونفَّذ رسالته نحوي كان أمي أكثر من التي ولدتني، لان الروحي أهمُّ من الجسدي.
مصلوبون – فالمطلوب من الكهنة هو أن يكونوا معلَّقين على صليب المسيح، ليفيضوا لنا من جبنه دم الحياة. الكاهن الحقيقي خروف ذبيح من أجلنا بتواضع المسيح وصبره.
في الحق فقط – والمطلوب من الشعب أن يحبَّ كهنته ويعتني بهم، وأن يسمع لهم في كل شأن لا يخرجون فيه عن حق الانجيل. أما إذا خرج الاسقف او الكاهن عن جادة الصواب فمقاومتهما واجبة. فكل عضو في الكنيسة مسؤول عن الدفاع عن الحقيقة. ومفروض على العلماني ان يقاوم الاسقف الذي يخون الحقيقة، الغير الامين للتقليد المسيحي.
الكاهن القانوني – وأودّ أن أُذكِّر أن الكاهن الذي يؤمن بالثالوث القدوس وتجسُّدِ يسوع هو كاهن قانوني في ممارسة الاسرار برضى رئاسته الشرعية. فأخلاقه الشخصية لا تجرِّده من وظيفته الكهنوتية. الارتداد عن الايمان يوقفه عن العمل حتماً. وإن تاب وعاد الى الايمان، يتمُّ مسحه بالميرون. فالكهنوت مثل المعمودية: هو واحد لا يُعاد.
وأكتفي بهذا القدر عن الاسرار.
الايقونات المقدسة
الرسم إبداع – رسَّامو الايقونات المبدعون الأبرار يدخلون في زمرة آباء الكنيسة ومعلّميها. هؤلاء علّمونا باللسان وأولئك علَّمونا بالريشة. وصلاة الكاهن التي تقدس ماء المعمودية والخبز والخمر والزيت، هي نفسها تقدّس الايقونات، والكنائس، وأدوات الكنيسة وكل شيء يصلّون عليه. فبولس علَّمنا أن الاطعمة تتقدَّس بالصلاة.
الفن في خدمة الله – الفنّ قابل لأن يكون أداة لتمجيد الله وأداة للشر.
الترنيم عام في كل الأديان. والفرق بينه وبين الغناء الدنيوي نسبيّ.
الفن والتصوف – وكذلك الرسم والنحت والشعر والأدب. بينها وبين التّصوف قرابات نفسية. فحذفُ الفن من الحياة هو حذف نشاط هامّ في حياة الانسان. نحن صورة الخالق. في الفنون نحن خلاّقون مثل خالقنا.
وما سفر المزامير في الكتاب المقدس وترانيم الكنائس إلا أحد جوانب الفن. وبدأ الناس في أوربا وأميركا يتهافتون على الايقونات ويدفعون الملايين ثمناً لها. وأسعارها في ارتفاع متواصل وفاحش[28].
وأرجو قيامة الموتى..
القيامة – الموتى سيقومون. قام المسيح كباكورة لنا. هو السابق ونحن اللاحقون. فنموت على رجاء القيامة. في المعمودية قمنا معه القيامة الاولى. في نهاية العالم سنقوم القيامة الثانية.
أَحَيَوانات – الحياة بعد الموت وحدها تعطي الانسان الاطمئنان الى مصير ما. إن كان القبر هو مثوانا الوحيد الى الأبد، فما الفرق بيننا وبين الحيوان؟ الفرق هو أننا نشقى بعلمنا بينما يسعد الحيوان بجهله. وما معنى السموّ الاخلاقي، ما دام المتهاونون أخلاقياً سعداء، بينما المتسامون يقمعون أنفسهم؟ لماذا يصلب الرهبان والنساك أنفسهم طيلة الليل والنهار دهراً، إن كانت نهايتهم مثل الحيوانات؟ هؤلاء الذين هم أقرب الى الله من سواهم يؤمنون بالخلود اكثر من إيمانهم بوجودهم الارضي. الله هو مصدر طمأنينتهم الى أنهم إليه راحلون يوماً ناجين من بؤس العالم الشرير.
تراب – الجسد يعود الى التراب. وهو – أصلاً – من تراب. العلماء المغرورون ظنوا أنهم اكتشفوا ما يعجز عنه الناس. هو بديهية منذ آلاف السنين. فالجسم ينحلّ الى تراب، لانه من تراب. ومنذ آلاف السنين تقريباً قال فيه اليونان إن الإنسان حيوان ناطق. عرفوا وعرف الناس قبلهم ان جسمه مثل جسم الحيوان الا أنه ناطق ذو عقل. القائلون بأن الانسان حيوان فقط بؤساء يستحقون الشفقة، ولو كانوا علماء. من يحتمل منهم أن أقول له: "يا كلب ابن الكلب" دون أن تثور كرامة الانسان فيه؟ وسبحان الذي صنعنا فجعلنا أبناءه بالروح القدس.
ما يميِّزنا – كل ما فينا بدون أن يكون متوفراً لدى الحيوان من ألوان النشاط المتعدّد الالوان – إنما يصدر عن الروح . وبما أنه هو الشيء الذي يميّزنا من الحيوان ويجعلنا ذا قيمة وجودية بينما وجود الحيوان وعدمه سيَّان فلا بد من أن تصدر ألوان هذه عن جوهر ما.
لا للمادية – فشلت كل محاولات ربط النشاط البشري العالي بكيمياء الجسم. وفشلت محاولات تحليلها ودرسها نفسياً وروحيّاً[29].
الروح غير مادية – هذه الروح مصدر هذه الالوان من الانشطة. هي عنصر غير مادي، لا يمكن تحليله في المخابر. ترنو الى الله، مصدرِها، متى نفضت عنها غبار خطيئة آدم. فهو يحجب عن عيوننا رؤية الالهيات.
على رجاء – لذا أومن بأن الله سينقل روحي الى نعيمه، لتنظر المجد الأكمل والنعيمَ الأوفر، يوم تقوم الاجساد، وتتحد بالأروح، لتنال الحساب عما فعلته في الجسد من خير أو شر. ولكن لا يسكن في جسدي المائت أي خير.
ملاقاة الرب – ففي اليوم الأخير تُنْشَر الأجساد من القبور لملاقاة الرب كما قلنا قبلاً. وتستعيد الأرواح مَساكنها أي الأجساد، بعد أن تصير أجسادُ الصديقين نورانية. لا حاجات مادية. وقد قال الرب – كما ذكرنا سابقاً – إن البشر سيكونون في الآخرة مثل الملائكة: ليست لهم حاجات مادية من طعام وشراب وكساء وأزواج وأولاد. ملكوتنا ملكوت روحي لا مادي. غبطتنا روحية. فردوسنا روحي[30].
الأبدية – في لحظة الموت تنتقل الروح البارة الى مكان غبطة ما بينما تنتقل الشريرة الى مكان شتاء وذلك حتى النهاية العامة (السلم الى الله 107:26). والآن تتخلى المراجع الكاثوليكية عن مفهوم المطهر (معجمCatholisisme ودائرة معارف De la foi). وقد صدر حديثاً كتابان أرثوذكسيان هامان عن الحياة بعد الموت: 1- المطران اليوناني ايروثيوس فلاغوس (يوناني وانكليزي وفرنسي). 2- Larchet J-C (فرنسي). وبعد القيامة يدخل الأبرار ملكوت الحياة في الدهر الآتي. الحياة فيه أبدية، أما الأشرار فإلى عذاب أبدي. نجّانا الله جميعاً منه!
المقابر – أمام المقابر، حين التفكير في عذاب جهنم، حين رؤية أباطيل العالم، يرى الانسان أنه هزيل جداً وتافه ويتمنّى أن لا يكون موجوداً، إن كانت نهايته في جهنم. لذلك يبقى دمُ المسيح فسحة أمل في جحيم أفكارنا المتصارعة، ووجودِنا المنهوك، وعالمِنا المستهلك بلا أمل حقيقي سوى انتحار الناس سعياً وراء سعادة وهمية يتوقعون القبض عليها في غرور الدنيا الفانية. كل ما يفتخر به الناس هنا باطل: المال، الزينة، الجاه…
صلاة: اللهم ارفعْ عقولنا فوق توافه الدنيا وأباطيلها، واصرفْ إليك عقولنا وقلوبنا بصمود القديسين العموديين. اللهم! اجعلنا نفتخر بك فقط، ونحتقر الدنيا.
عيد التجلي
إذ أنهي اليوم المراجعة النهائية لهذا الكتاب، لا أنسى ان يسوع حدَّث موسى وإيليا عن مصيره في أورشليم، أي عن آلامه وصلبه، كما كتب لوقا الأنجيلي. فلوقا ركَّز على أورشليم كقبلة نظر يسوع (51:9 و22:13 و11:17).
ما علاقة الآلام بهذا التجلي العظيم؟
جبلان اتحدا في ضمير المسيح والمسيحية: الجلجلة وثابور. فالصليب آلام، وانما آلام مجدِ يسوع لانه بالصليب ختم على قلوبنا بخاتم أقصى حدود محبته، فكان الصلب مجده.
فمن توهَّم أن طريق السماء مفروش بالورود كان ألعوبة الشيطان. هؤلاء المبسِّطون للمسيحية يخدعون أنفسهم ويخدعهم الشيطان[31]. المسيحية صليب، زهرة قيامة من أشواك.
لا تجلّي إلا بالصليب. لا يصل الى جبل ثابور الا الذي ارتقى جبل الجلجلة. بالصليب نصل الى القيامة والتجلي، لا بالتخاذل والتهاون والكسل. المسيحية نضال بطولي. المسيحي الحقيقي هو الذي يصلب نفسه كل يوم، هو الذي يستشهد في ضميره كل يوم. وإلا كان مزيَّفاً مثل كل المزيَّفين الذين فضحتهم في كتاب "المزيَّفون".
ولكن، ربَّاه! ألستُ أنا رأساً لقافلة المزيَّفين، اذ أقول ولا أفعل؟ نعم. إنما أسالك أيها الثالوث القدوس، الآن كما منذ البداية، أن يكون نورك الساطع على جبل ثابور هو الذي قد قاد هذا الكتاب حتى نهايته.
فإن كنتُ عاجزاً عن التلألؤ مع رسلك وموسى وإيليا، بسبب زحمة خطاياي الخانقة، فهل تمنع نورك من أن يعصمني من تضليل الغير بتعليمٍ مشوب بالاخطاء؟
فإن كانت حياتي عجيناً من نجاسة، فاحفظ، على الأقل، فكري وقلمي من الزلل، لأعترف بك الاعتراف الحسن.
فيا نوري ومخلصي، الآب والابن والروح القدس، أدخلْنا مجدك الثابوري لنعاين بنورك النور. فما عاين الرسل نورك إلا لأنَّك أنرتهم، وفتحتَ عيونهم لرؤية النور. فأنت النور. وأنت النور الذي أضاءهم ليعاينوك، فشاهدوك نوراً. دنياك كلها نور في نور.
اجعلنا أنواراً في ملكوتك لتسبيح مجد اسمك.
جلِّلْنا بالنور أيها النور الثالوثي الضياء. فالآب نور والابن نور والروح القدس نور. وكل نور آخر قبس من هذا النور الحقيقي أو ظلُّه. فكنْ نورنا أثناء تخبّطنا في هذه الحياة الزائلة. أصعدنا معك الى ثابور لنعاين مجدك ونسبِّح بحمدك. فبدون نور ثابور نحن أدنى من الجماد. وبنور ثابور نحن آلهة وأبناء العليّ. فالمجد لجودك وسناءِ نورك.
فلا تحرمنا مجدك، ولا ترذلنا بسبب خطايانا. فلنا ملء الثقة بالخلاص بنورك، لا بضحالة أعمالنا التي ليس لها من البِّر الا ظاهره. فإن العمق هو صنعة يديك. إن ارتضيت أن نكون عميقين أنارنا نورك. أما من تلقاء أنفسنا فنحن فراغ في فراغ. لا امتلاء إلا بالنور الثالوثيِّ الضياء الى أن يتحنّن الله على تفجُّعنا ونوحنا وأنيننا القاطر دماً فيمسح بنوره دموعنا[32].
عيد التجلي 6/8/1984.
الخاتمة
نور الإنجيل بمجد المسيح (2 كور 4:4)
ماذا بعد هذا الملخص اللاهوتي العقائدي؟ العقائد الارثوذكسية ركيزة للحياة الروحية في المسيح ربنا. الصلاة عمود رئيس من أعمدة التقوى. والكنيسة الارثوذكسية مشهورة بصلواتها وطقوسها الزاهية. والمناولة عمود رئيس آخر. وكتاب العهد الجديد عمود ثالث هام جداً لأن الروح القدس ينقُشه في القلوب. الأمر واضح في أرمياء (31:31) وفي رسالة بولس الثانية لكورنتس والفصل الرابع ورسالة بولس الى أهل أفسس حيث جاء أن كلمة الله هي سيف الروح (17:6). أما في الرسالة الى العبرانيين (12:4) فقال: "فإن كلام الله حيّ فعال أمضى من كل سيف ذي حدين، نافذٌ حتى مفرق النفس والروح والاوصال والمخاخ، مُميِّز لأفكار القلب ونيّاته". في الرسالة الى كولوسي (16:3) جاء: "ولتحلَّ كلمة المسيح فيكم بكل غناها". أما الرب يسوع فقال لتلاميذه: "الكلام الذي كلمتكم به هو روحٌ وحياة" (يوحنا 63:6). مكاريوس المنحول ويوحنا السلَّمي قالا إن الروح القدس ينقش كلام الله في القلوب. ديمتريوس روستوف قال إن الانجيل يعمل فينا فنلفظ الخطيئة كما نلفظ نواة الثمر. من كل هذا يبين أنَّ كلام الله يحلُّ فينا بالروح القدس ويضحي حياةً لنا. يسوع قال: "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله". فكلام الله يمتزج بكل حياتنا فيتجسد في كل كياننا فيلهمنا الأعمال الصالحة، ويضحي غذاء ضميرنا وشريعة حياتنا وسلوكنا وفكرنا وكلامنا. فيصير فينا فكر المسيح (فيلبي 2).
العهد الجديد وتفاسيره الآبائية المقبولة كنسيّاً هي قواعد سلوك العهد الجديد المحفور في كل كياننا بالروح القدس يرشدنا الى الأعمال الصالحة التي أوصانا بها الله. لذلك على المؤمن أن يجسِّد في كل كيانه العهد الجديد لا بالحفظ غيباً، بل بالحفظ في كل مسالك الحياة. يسوع هو كلمة الله الحي المساوي للآب في الجوهر، والانجيل رسالته الى القلوب لا للحفظ في الذاكرة فقط بل في كل ذرات النفس والجسد حتى نضحي فوتوكوبي عن يسوع.
قال كيرللس الاورشليمي وسواه من الآباء: "هو المسيح ونحن المسحاء". المسيحي صورة عن المسيح. نيقولاس كاباسيلاس أنشأ كتاباً اسمه: "الحياة في المسيح". فالمسيحي يحيا في المسيح عبر الصلوات والمناولة والانجيل والأعمال الصالحة.
بولس الرسول علّمَنا أن نقتدي به كما يقتدي هو بالمسيح. ويسوع نفسه علّمَنا "أن نكون كاملين كما أنّ أبانا الذي في السموات هو كامل"، "وأن نكون رحماء كما هو رحيم".
إن الروح القدس ينسجنا نسيجاً جديداً في يسوع المسيح متلألئاً بالفضائل الإنجيلية. لا بد للإنسان المسيحي من أن يزرع الفضائل مكان الاهواء حتى تصبح الفضائل فيه طبيعة ثانية. آنئذٍ يشرق فيه نور الرب كما أشرق في جبل تجلي ربنا، فينتقل من هذا العالم الفاني إلى العالم الآخر في المجد الآبدي.
كتب للمطالعة
نيقولاوس كاباسيلاس: الحياة في المسيح، ترجمة البطريرك الياس الرابع معوض.
القديس أفرام: المزامير الروحية، ترجمة د. عدنان طرابلسي.
القديس افرام: ترجمة المطران افرام كرياكوس.
اسبيرو جبور: يا يسوعاه.
اسبيرو جبور: الطريق الى ملكوت السماء.
اسبيرو جبور: الظهور الالهي.
اسبيرو جبور: المزيّفون.
7/10/2009
الذكرى الأربعون لانتخاب المطرانين:
ألكسي عبد الكريم وكوستا باباستيفانو
[1] – سنكسار الخميس العظيم: أكل يسوع خروف الفصح، ويوحنا الذهبي الفم، وحاشية Bible de Jérusalem.
[2] – Catholicisme, tome 1, col. 1217-8; Paris, 1948; tome 11 col. 1383-4; Paris 1949.
[3] – Tixeront, Histoire des dogmes. Gabalda, 1931;11, p.170,172 et 206;111, p 234-235.
[4] – Benoît, p.25.
[5] – Augustin. P.l. 33,361; 217, 984; p.l. 38,944;45,1154; V. Tixeront 11,419. V.encore: St. Grégoire, P.L. 78.90 et 957-8 et 1000.
[6] – صموئيل الاول 12:2-17 و22-36 و4-11.
[7] – راجع ما قلناه أعلاه. في زمن سحيق كان الأسقف يمنح الميرون المقدس. لذلك يرى كاتب مقال المعمودية أنه على الاقل كان يُعطى القربان المقدس في الحال للطفل المعمود (Catholicisme, tome1 col 1218). سنرى أن للشماس حق منح القربان.
[8] – الكلمة صحيحة لغوياً، وتعني أقبح العيب، والعار (الناشر).
[9] – سمعان التسالونيكي، مين اليونانية 968:155 أب، Boulgakov, L’Orthodoxie, Paris, 1932; P.186.
[10] – الترجمة السائدة خطأ. لفظةKata panta وردت في العهد الجديد بالمعنى الوارد أعلاه (أعمال 2:17 ورومية 2:3 وكولوسي 20:3 و22). فأجادت اليسوعية الجديدة ترجمتها، وهكذا الترجمة الرومانية والفرنسية Mercenier وترجمة كرميريس أستاذ اللاهوت في اثينا (الصفحة 465 من كتاب مؤتمر اللاهوتيين الارثوذكس الثاني، اثينا 1978) وبذلك يكون شرح ترامبيلس (والناقلين عنه) خطأ (ص 185 من كتابه Leitourgikon، الطبعة 8، اثينا 1976). فقد قال: Kata panta topon أي "في كل مكان". أعطى اللفظة معنى مكانياً. في رومية 2:3 جاء:Kata panta tropon أي "في كل وجه": لفظة Tropon محذوفة في أعمال 22:17 وكولوسي 20:3 و22. ترامبيلس أعطى معنى مكانياً للعبارة لا يأتلف مع المقصود، ألا وهو طبيعة الذبيحة المقدمة التي هي واحدة في كل الأرض ما دام الصليب واحداً والضحية (يسوع) واحدة. الشمول هو المقصود.
[11] – عثرنا لاحقاً على العبارة نفسها لدى سمعان التسالونيكي، مين اليوناني 155،373. فهذا يدعم رأينا.
[12] – التعبير حقوقي، والمعروف أن الكاتب محامٍ بالأصل (الناشر).
[13] – بعد الاستحالة يصلي الكاهن أو الاسقف للعالم أجمع من أحياء وأموات. في قداس باسيليوس روائع هذه الشمولية. وفي قداس يوحنا تستشفع الصلاة بالعذراء والقديسين، فيختم الكاهن الطلبة: "وخاصة من أجل الكلية القداسة.." راجع كاباسيلاس في ترجمة الأب منيف حمصي.
[14] – Clément, Sources. P 101-2.
[15] – طبعا لا يعني الامتزاج تحولنا إلى لاهوت أو تحول اللاهوت الى ناسوتنا.
[16] – عن كليمان ص103. في ترجمة شرح خدمة القداس لكباسيلاس بقلم الأب منيف حمصي معالجة جيدة لهذه النقطة.
[17] – يوستينوس الشهيد، الدفاع الأول 65 في مين اليوناني 83:6. وحنانيا كساب، مجموعة التشريع الكنسي، ص205. راجع بحثا مطولاً تحت لفظة "مناولة" في المعجم Catholicisme 1 .
[18] – قلنا في "المزيفون" إن المناولة لا تجعلنا ويسوع أقنوماً واحداً. يسوع تجسد من العذراء ولكنها لم تصبح معه أقنوماً واحداً. فقط ناسوت يسوع هو مع لاهوته أقنوم واحد. هذا أمر دقيق جداً طرحه علي الدكتور عدنان طرابلسي، ثم بعده الآنسة سحر الياس حموي في اللاذقية. بارك الله فكرهما النابه. من الضروري قراءة الفقرة مراراً لاستيعابها تماماً.
[19] – غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 18:40.
[20]– غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 18:40. بعد إنشاء هذا الكتاب صدر كتابنا "فادي وذيسبينا" عن سرّ الزواج في شكل قصة. وكتابنا "المرأة في نظر الكنيسة".
[21] – في كتابنا "المزيفون" طرقنا هذه المواضيع اجمالاً بأكثر توسع.
أ- باسيليوس، مين اليوناني، 973:31 آو868-68.
ب- غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 46:40 في مين 425:36 آ وب.
ج- غريغوريوس النيصي، في الكمال: مين اليوناني 101:45-105.
د- الذهبي الفم، مين اليوناني 372:47 و373 و188:60 و849:48. وقال إنه على المسيحي "أن يتصرف ويقرر في كل شيء وهو يفكر بأن المسيح هو معه في كل مكان" (المواعظ على المعمودية، طبعة الينابيع المسيحية رقم 50، باريس 1957 ص131).
ه- الذيذاخي (تعليم الرسل)، 8:11. لها ترجمتان عربيتان: البطريرك الياس، والكسليك.
و- ئيئوذوروس الستودبتي، مين اليوناني 1388:99.
ز- كاباسيلاس: الحياة في المسيح، ترجمة البطريرك الياس.
[22] – كورنثوس الاولى 7:8-9 وتيموثاؤس الاولى 3:5-15. ولا يقبل في نظام الأرامل إلا التي لم تتزوج الا مرة واحدة فقط (ا تيمو 9:5). وهذا نوع نظام رهباني للارامل المتجاوزات الستين اللواتي لم يتزوجن الا مرة واحدة. ومن كلام بولس ينتج أن قبول الحدثات من الارامل في نظام الارامل ممنوع لانهن قد يبطرن، فيتزوجن، فيرتكبن نكثاً بالعهد الذي قطعنه على أنفسهنّ بالتبتل. وبالقياس منع الآباء القديسون زواج الكهنة المترملين وزواج المتبتلين. ومن خلع الثوب وتزوج فَقَدَ حقَّ العودة الى الكهنوت. نص بولس الرسول لايقبل تفسيراً آخر. وهو نصَّ الهي غير قابل للنقض ولا تجوز الصلاة وراء كاهن تزوج مرتين.
[23] – الخطبة 8:37.
[24] – الرسالة 4:188.
[25] – الرسالة 4:188 و5:199.
[26] – أي سلَّمهم الدير كمقاطعة (الناشر).
[27] – مر معنا أن لفظة "الكنيسة" في اليونانية تتضمن معنى "الدعوة". الاسقف هو الراعي الرسولي المطالَب بالوعظ والتعليم والتبشير. إن كان عيَّاً لا يعظ ولا يعلّم ولا يؤلف فَقَدَ ركناً هاماً من أركان وظيفته.
[28] – بعد إنشاء الكتاب صدر في 1987 كتابنا "دمشق ولاهوت الايقونة"، بما أن يوحنا الدمشقي هو بطل هذا اللاهوت. وسَّعتُ استشهاداته من العهد القديم وعرضت لاهوته ضمن الخط الشخصاني العام الممتد من باسيليوس الكبير حتى بالاماس ومن بعده لوسكي.
[29] – راجع كتابنا "قرد أم انسان"، المنشورات الجامعة، 1983.
[30] – وإن استعملنا الفاظاً مادية، فالمعنى روحي. الجنة حديقة. السماء جلد. ولكن جنتنا روحية وسماءنا روحية. وجسمنا الترابي يتغيّر ويتحول الى روحي. بعد سقوط امبراطورية الالحاد في الاتحاد السوفياتي على ايادي الرئيس ميخائيل غورباتشوف وزوجته البارّة ريسا وامه المفضالة ومناضلات نساء روسيا، سيدخل العالم عصراً جديداً من العداء للالحاد ومن العودة الى التمسك باهداب الدين.
[31] – اللفظة اليونانية في (متى 16:10) تعني الفطنة لا الحكمة. الفطنة تتضمن الادراك والفهم والحذق. "كونوا فطناء كالحيات" أي كونوا فهيمين حاذقين. إن جرَّدنا اللفظة العامة "حربوق" من معاني الكذب والخبث والمكر والخداع والغش، كان المطلوب أن يكون المسيحي "حربوقاً" شريفاً صادقاً لا أبله معتوهاً. يجب تحرير مفاهيمنا ممّا علق بها في عهود الانحطاط. الاكليريكية والرهينة تحتاجان الى خبرة العناصر، الى أمثال باسيليوس والذهبي الفم ومكسيموس وبالاماس لا الى الجبناء الضعفاء العاجزين، بحاجة الى شهداء لا الى طواويس.
[32] – بعد هذا الكتاب أنشأت في 1992 بحثاً عن عيد التجلي، ثم في تموز 1993 كتاباً عن سر الثالوث القدوس. إنما هذا مكثَّف جداً جداً. أنتظر الفرج لدمجهما بتوسُّع كافٍ مفيد، وبعده موت الشهادة ودفن على موجب الوصية المنسوبة الى القديس افرام: في الاهمال المطلق.