اسبيرو جبّور
كنائس الشرق الأوسط
(4)
الذكرى 1550 لمجمع خلقيدونيا
الطبعة المجدّدة والمنقّحة
الكورة (لبنان 2010)
20- الأباطرة والكنيسة
الأباطرة القدامى اضطهدوا الكنيسة. الأباطرة السوريون أنواع. سبتيموس سويروس اضطهدها. فيليب الحوراني هو أول الأباطرة المسيحيين في رأي إيرونيموس (جيروم). عاد الإضطهاد بعده بضراوة كثيفة. في العام 313 حرّر قسطنطين الكنيسة.
دعا إلى المجمع المسكوني الأول (325) ضدّ أريوس. تأثر بمستشاره الديني هوسيوس الذي أحضره معه من إسبانيا، فدعم الإيمان الأرثوذكسي.
اندسّ عليه أفسافيوس قيصرية فلسطين وأفسافيوس بيروت (المنتقل إلى نيقوميذية) وصحبهم. أفسدوا عليه السُبل. واخترعوا التهم الأخلاقية ضدّ أسقف أنطاكيا، فنفي. وكذلك ضدّ أثناسيوس فحاكموه في صور.
شخصيّة قسطنطين قابلة للتأثُّر. كتب حياته أفسافيوس قيصرية، فشحنها بالإعجاب والإطراء والعجائب، فحار النقّاد في أمرها.
ابنه قسطنديوس نصف أريوسي. أرهق الكنيسة، وانتزع تواقيع الأساقفة، فلم يرفض منهم سوى أثناسيوس وإيلاريون بواتييه. أما الشعب فبقي أرثوذكسياً على ما قال العلامة لوبريتون اعتماداً على العلامة الكردينال نيومن.
خلفه ابن عمه جوليوس المرتدّ. أعاد الأمور إلى طبيعتها. ثمّ اندسّ اليهود عليه، فبدأ الإضطهاد. ذهب في حرب ضدّ فارس، فدخل عاصمتهم طيسفون حيث أصابه سهم قاتل (363). كان إمبراطوراً لامعاً كفّره بالله ظلمُ بيت عمّه. خلفه جوفيان الأرثوذكسي الضعيف السكّير، فصالح الفرس على الشروط التالية:
أ- تسليمهم الأملاك الرومانية شرقي الفرات والعودة إلى غربه.
ب- دفع أتاوة سنوية.
جـ- تسليمهم حصن نصيبين الحصين.
د- تعهّد الفرس بمحاربة الهفتاليين الترك الذين يهاجمون الحدود الشرقية للإمبراطوريتين العظيمتين.
ما طال أمره. مات فخلفه والس الأريوسي. أعاد كرة الإضطهاد. مات فخلفه ثيئوذوسيوس الكبير (379 – 395) زوج القديسة براكيلا. كان أرثوذكسياً. خلفه ابنه المخبول أركاديوس. تزوّج هذا ابنة رئيس الجيش وهو جرماني أريوسي. صارت أرثوذكسية شكلاً. اضطهدت الذهبي الفم ونفته حيث مات 407. خير المدافعين عنه لدى الأمبراطور هو إيلبيذيوس اللاذقية. ننشر سيرته كملحق ودليل على أن السوريين كانوا قلب الأمبراطورية منذ القرن الرابع وإن أرهقوها بمشاكلهم…
خلفه ابنه الضعيف ثيوذوسيوس الثاني (408 – 450). ارهقت حاشيته الكنيسة في أزمة نسطوريوس وأوطيخا، فغرق كيرللس في الرشوة والتبذير (رستم 319:1 – 320 عن باتينول؛ والتاريخ الجديد 391:1). واتهمه خليفته ديوسقوروس بالتبذير (مانسي 1012:6). خلفته أخته بولخاريا وزوجها ماركيانوس ببلانسل. خلفهما لاون الأول الأرثوذكسي الذي صاهر زينون قائد جيش الشرق. خلفه صهره هذا صديق بطرس القصّار. تلوّنت سياسته جداً. أصدر كتاب “الإتحاد”، فأهمل ذكر خلقيدونيا. أسقطه لفترة فاسيليسكوس. مات، فبايع مجلس الشيوخ والجيش زوجته الأرثوذكسية ارياذنة، وترك لها حرية اختيار زوج يملك معها. اختارت أنسطاسيوس غير الخلقيدوني. رفض البطريرك تتويجه إن لم يعتنق الأرثوذكسية
(491 – 518). كان أمبراطوراً لامعاً حتى زار سويروس وفيلوكسينوس العاصمة وقلبا رأسه، فأعاداه إلى عداء خلقيدونيا (508).
هنا تبدأ معركة حامية دينياً وسياسياً. جرت محاولات لإسقاط الأمبراطور. ارتمى على البطريرك. أنجده، فنكث بالوعود. هو الذي مزّق الكنيسة شرّ ممزّق، وإلاّ لاستمرّ الخلاف على المناصب، وسوّى الله الأمور حبيّاً. هو وسلفه دمّروا كنيسة أنطاكيا.
خلفه جوستينوس (518 – 527) الأرثوذكسي، فخرّب الكنيسة بالإضطهاد. خلفه ابن أخته جوستنيانوس الكبير (527 – 565). تزوّج من ثيئوذورا القبرصية (كما يرى شارل ديل وترجم حبيب جاماتي). ثيوذورا شدّدت عزيمته في محاولة إسقاطه العام 532، فنجا. إنّما سيطرت عليه. دخلت الكنيسة لعبة “البينك بونك” بين جوستنيانوس الأرثوذكسي وزوجته المونوفيسيّة في قصرها رسم ثيوذوسيوس الإسكندرية يعقوب البرادعي أسقفاً أقوى من الصاروخ. ورضي الأمبراطور أن ينصَّب الحارث الفساني فيلارخوس (رئيس قبيلة) على العرب مع بقائه غير خلقيدوني. ففسح هذا ليعقوب المجال للتمدّد بين العرب على حساب الأرثوذكس. وكان لا يتكلّم اليونانيّة (باباذوبولوس). أما السريان فيقولون إنه كان يجيدها.
سعى الأمبراطور للقاء بين الطرفين في العام 532. اجتمعوا في العاصمة. لم يتفقوا. إنما اعترف المونوفيسيّون بأن أوطيخا كان هرطوقياً دانه المجمع بحق، وبان ديوسقوروس أخطأ في مجمع 449، فقبل أوطيخا بدون فحص، فكانت الدعوة إلى مجمع خلقيدونيا صائبة… وكان ثيئوذوريتوس على اتصال مع كيرللس وتبادلا الرسائل… لمع في الإجتماع إيبانيوتي أفسس. ولكن بقيت الأمور معلّقة (باباذوبولوس، ص 343 – 345).
وحمي الوطيس في العاصمة، فاستنجد أفرام أنطاكيا بالبابا أغابيتوس، فجاء العاصمة يحارب المونوفيسيين. وعقد مجمعاً في آذار 536 خلع فيه بطريرك العاصمة، ونصّب ميناس مكانه. وفي آذار 536 انعقد مجمع برئاسة ميناس قُدّمت إليه الشكاوى العديدة. وكان بين المجتمعين بولس رئيس دير القديس مارون. أثيرت فيه قضايا جارحة (المرجع نفسه،
ص 346 – 350). دير مار مارون خلقيدوني قحّ عدو لسويروس، ويتهمه بقتل 350 راهباً من رهبانه خرجوا في زيارة لدير مار سمعان العمودي. قدّم بها شكوى للأمبراطور في المجمع المذكور، وكان في 517 كتب إلى البابا هورميسداس يعلمه بالجريمة.
في غمرة الأحداث ظهر لاهوت التقنيم. قال به لاونديوس الأورشليمي: ليس لناسوت يسوع أقنوم خاص به. أقنوم ابن الله صار أقنوماً للناسوت. قنّمه، صار أقنوماً له. تبنّى الأمبراطور ذلك. الكتاب الضخم Das Konzil توهّم أنّ هذا المجمع هو خلقيدونيا جديدة متأثرة بكيرللس. كيرللس لم يستطع حلّ معضلة كيفيّة اتحاد الطبيعتين (سرّ التدبير، ص 75 و189). حلّها لاونديوس. إنها عقيدة التقنيم الرائعة. ما زالت المسيحيّة حتى اليوم وإلى الأبد تصطدم كل لحظة بموقف نسطوري يفصل وموقف مونوفيسيتي-مونوثيليتي يوحّد. لا نفصل الإلهي عن الإنساني ولا نمزجهما.
إلاّ أن ثيوذوروس اسكيذاس الأوريجنسي اندسّ عليه بخبث. هو أسقف قيصرية فلسطين[1]. أراد الإنتقام من المدرسة الأنطاكية التي كان يعتمد عليها أصحاب الحجج ضدّ الأوريجنسية. خدع الأمبراطور وأوهمه أن إلقاء الحرم على ثيئوذوروس المصيصة وثيئوذوريتوس قورش وهيباس الرها سيرضي المونوفيسيين. أنشأ الأمبراطور في 543 – 544 “اعتراف إيمان” يشجب شخص الأول ومؤلّفاته وما كتبه الأخيران ضدّ كيرللس، دون الطعن في شخصَيْهما إذ قبلهما المجمع المسكوني الرابع، وتبرّآ من نسطوريوس. رفضه افرام أنطاكيا ولم يوقّعه[2]. وكذلك البابا فيجيليوس واستحضره الأمبراطور من روما عبثاً. وأخيراً دعا إلى مجمع مسكوني (553) فلم يحضره البابا. ومارس الأمبراطور الضغوط عليه فتقلّب رأيه وأخيراً غُلِب على أمره (باباذوبولوس 379 – 383 والتاريخ الجديد 410:1 – 412).
لم يرضَ المونوفيسيون عن المجمع لأنه لم يشجب مجمع خلقيدونيا. يئس الأمبراطور منهم (التاريخ الجديد 410:1 – 412 ورستم 387:1). آنذاك اتجه صوب المسيحيّين في فارس. استدعى وفداً منهم. باحثهم. اختلفوا معه على طعنه في معلّمهم الأنطاكي ثيوذوروس.
كان يصرّ على تلقينهم لاهوت التقنيم، وكانوا يجادلونه في أمر معلّمهم. أخطأوا جميعاً السبيل. فشلت المفاوضات(25).
يبدو أن المونوفيسيّين اتّهموا المسيحيّين في فارس بالنسطورية. فكان التوتّر شديداً بينهم. واتّهموا الأرثوذكس بالملكانيّة أي أتباع الملك البيزنطي. ويبدو أن المسيحيّين في فارس صدّقوا ذلك وإن بقي قلبهم مع بيزنطيا نكاية باضطهاد الفرس له كما سنرى في عهد هرقل. إنما خافوا من إنشاء علاقة ظاهرة.
لا يمكن تحديد زمان التعيير بدقة. إنما كان سارياً في أواخر القرن السادس. لفظة “ملكانيّة” سريانيّة لا قبطيّة. أعجبني دفاع ثيئوذوروس أبو قرة ضدّها في حملته الهوجاء على اليعاقبة والموارنة. يبدو لي أنه لم يفهم من الموارنة سوى اعترافهم بخلقيدونيا، بينما حضروا اجتماع القسطنطينية في 536 والمجمع المسكوني الخامس. وفي اجتماع الـ536 اشتكى رئيس دير مار مارون على سويروس الأنطاكي، على ما في هذا الكتاب.
ردّ على تهمة الملكانية، فقال: “الأباطرة دعوا إلى جميع المجامع: الأول، الثاني، الثالث،…”
هذا صحيح: دعا قسطنطين إلى الأول، وثيوذوسيوس الأول إلى الثاني (381)، وثيئوذوسيوس الثاني إلى الثالث (431)، وبولخاريا إلى الرابع، وجوستنيانوس إلى الخامس، وقسطنطين الرابع إلى السادس… وفي مخطوطة لندن السريانيّة المارونيّة يفتخر الكاتب بهرقل المظفَّر. فكان الموارنة أتباع الأمبراطور، بينما كان الأرثوذكس أعداءه حتى العام 680. وانتصر كيرللس على نسطوريوس بواسطة الأمبراطور، وانتصر ديوسقوروس في 449 على يد الأمبراطور ووزيره النافذ. وتبقى بولخاريا القديسة (المتبتلة المثقفة التي بنت الكنائس والأديار ووزعت ثروتها على الفقراء) خيراً من الباقين. إنما استغربت ضراوة أبي قرّة ضدّ اليعاقبة. ماذا جدّ بين 636 و800؟ (الشرق الأدنى
المسيحي، 41: ص 25 – 33؛ 1991، فرنسي). وسلفه في دير مار سابا، الدمشقي معتدل. ويستعمل للأرثوذكس إسمين: “الخلقيدونيون” و“الأرثذوكس” على ما قرأتُ منه. وهذا يعني انه لم يستعمل “الملكانيّة”.
وما طال الأمر حتى ظهرت في مصر بدعة شقّت الأقباط إلى جوليانيّين وسويريّين. يقول الأوّلون أن جسد يسوع بريء من الفساد. يقول الأخيرون إنه قابل للفساد. فقد تألّم وقبر… انحاز الأرثوذكس إلى السويريّين.
انحاز الأمبراطور إلى الفريق الأول متوهّماً أنه يستطيع بذلك كسب المونوفيسيت والتوفيق بينهم وبين الأرثوذكس. استعدّ للأمر ودوّن مذكرة. ناصبها بطريرك القسطنطينية العداء. فخلعه وعيّن مكانه يوحنا المعلّم المثقّف والقانوني. وكان هذا سورياً – مثل سرجيوس – من سرمين[3] إدلب. فالمنطقة كانت عشّ الرهبان والحبساء والعموديين والمعمارين و… وكان يوحنا وكيلاً للبطريرك الأنطاكي العظيم أنستاسيوس الثاني في العاصمة.
اتجهت أنظار العالم الأرثوذكسي إلى قطبه أنستاسيوس. دعا مجمعه فحضروا جميعاً أي 154 أسقفاً. وضعوا استقالتهم بين يديه. المواجهة ساخنة. مات الأمبراطور في العام 565 ومات الأمر معه (سرّ التدبير، ص 154 وباباذوبولوس، ص 384 ورستم 385:1).
خلفه ابن أخته جوستينوس الثاني زوج صوفيا ابنة أخي ثيئوذورا. تابع كل منهما سياسة سلفه بفشل. جوستينوس مزج سياسة سلفه بسياسة زينون، ففاوض وساوم عبثاً. كان الجو قد أدلهمّ، وتطرّف الرهبان المنوفيسيت الجهلة، حتى عجز يعقوب البرادعي عن السيطرة على الموقف. لان يعقوب والبعض الآخر جهدا عبثاً في اجتماع الرقة في العام 567
(رستم 387:1 – 388). وكان الخلاف قد دبّ في عهد جوستنيانوس بين مونوفيسين مصر كما أسلفنا. واستشرى الخلاف بينهم في كل مكان حتى عجز يعقوب البرادعي عن ضبط الأمور (باباذوبولوس، ص 334 و338 و388 – 395 ورستم 388:1، والتاريخ
الجديد 405:1). وذكر الأول مطوّلاً اشتباكاتهم (ص 393 – 400). وذكر التاريخ الجديد انقسامهم في مصر إلى عشرين فرقة، فأقاموا في مصر أربعة بطاركة في العام 556 (التاريخ الجديد، 408:1).
في النهاية شقَّ يعقوب البرادعي الكنيسة بجبروت شخصيّته الديناميكيّة. كان الصراع على المناصب الأسقفية فصار لكل من الطرفين إكليروسه المستقلّ. من غرائب الأزمة أن المونوفيسيت قالوا بالطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة والفعل الواحد، فكانوا بالعكس أتون ديناميكية لا تبرد. والأرثوذكس قالوا بطبيعتين وفعلين ومشيئتين فكانوا خاملين. أنطاكيا العظمى اختارت مرتيريوس الضعيف في العام 458. وابتليت قبلاً بأفذؤوس وبرفيريوس عدو الذهبي كما ابتُليت في الأعوام 519 – 526 ببطريركين تافهين جداً من مساخر الزمن (باباذوبولوس، ص 335) خلفا سويروس. بطرس القصار عجز عن تركيع مدينة أنطاكيا فسقط وعاد أربع مرات. سويروس أركعها، فما وجدت من يخلفه سوى هذين التافهين. عملياً كان المونوفيسيت يؤمنون بنشاط الإنسان والأرثوذكس خاملين يتّكلون على الله ليبرّروا غيبوبتهم عن مسرح النضال. وخلف طيباريوس (574) جوستينوس. عطف على المونوفيسيت وأحسن معاملتهم (رستم 389:1 وباباذوبولوس،379 – 402)، فقويت شوكتهم.
ومات فخلفه مفريكوس. هو قديس لدى السريان (رستم 388:1). عاملهم بالحسنى واللّين طيلة حكمه من العام 582 إلى العام 602. من هذا العرض يبين أن الأرثوذكسية قاست من الأباطرة ما قاست، وأن الفترة الواقعة بين العامين 451 و574 قست على الكل بنسب مختلفة.
واتّضح من هذا العرض أن الصراع لم يكن محليّاً أبداً، بل كان عالمياً واستفاد المونوفيسيت من الفترة اللاحقة لوفاة جوستنيانوس (565) لترتيب أوضاعهم وتقوية نفوذهم.
إنما كانت سوريا هي القلب المحرّك للجسم. فالسوريون أسّسوا الرهبنة في جورجيا (26) ورومانيا(27). صار أحدهم أسقفاً على باريس وآخر على كانتربري وثالث كان أول مطران على كييف(28). واعتلى سدّة روما سبعة منهم. ففيها 16 تمثالاً لبابوات شرقيين. هم أكبر من أن يقبلوا في قرونهم الذهبية بالإنحصار في رقعة من الأرض. كانوا منتشرين في جميع أرجاء الأمبراطورية. في عهد جوستنيانوس أو قبله كان والي أفريقيا الشمالية سورياً يجعله البعض عشيقاً لثيئوذورا قبل زواجها. في زمان مكسيموس في أفريقيا كان جيئورجيوس الأفامي واليها. ناصر مكسيموس لأنه كان صديق معلمه صفرونيوس. الدارسون الأجانب يستعملون للعقل السوري “الجامعية” L’universalisme(29). لذلك ما كان من الممكن أن تتخلّى أكثريّة السوريّين عنه لينحصروا في كتلة أو رقعة أو طائفة محليّة. كانوا على مستوى العالم لا على مستوى قرية.
لم يكن الإنقسام محلياً، بل عالمياً قاست منه العاصمة ما قاسَتْ. لذلك لم يكن قومياً وعرقياً بل دينياً. بعد الفتح العربي انحسر شيئاً فشيئاً حتى صار قبطياً وسريانياً وأرمنياً. والحبشة تابعة للقبط.
21- أبرشيات الكرسي الأنطاكي
في سوريا كان خطّ بصرى-أفاميا أرثوذكسياً بأكثريته حتى السواحل. وبصرى خلفت البتراء كعاصمة لولاية “العربية”. في لائحة البطريرك الأنطاكي (570) تشمل جرش وعمان (فيلادلفيا) ومأدبا وتيماء (ص 25 – 27). فرقعة الكرسي الأنطاكي واسعة جداً. فكان لكرسي منبج 11 أسقفاً منها مرعش في العمق التركي اليوم (ص 22 – 24). وكان لكرسي الرها أسقفاً في منطقة الفرات. وأظن أن البطريرك افرام أخطأ في القول إن أسقفية أمورين أو عمورين تقع بين أفاميا وشيزر (محافظة حماه الآن). المسافة بين الرها وحماه شاسعة. هي غالباً عمورية في أعلى دجلة. وهي من الثغور القديمة على الحدود (ص 17-8:19).
والجدير بالذكر أن البطريرك افرام السرياني قال في الصفحة 24: “ورد في سلسلة بطاركة السريان اليعاقبة التي ذيّل بها ميخائيل الكبير تواريخه…” فقد استعمل لطائفته عبارة “السريان اليعاقبة”. وهو صار بطريركاً أيام الإنتداب الفرنسي ورقد ودفن في حمص. ولم أعثر في النسخة التي بين يديّ على تاريخ طباعتها.
وذكر في الصفحة 25 أن بحِيرا الراهب الذي مرّ عليه الرسول محمد كان فيها. وأورد اسمه بالعربيّة والسريانيّة. ووضع “كسرة” بالسريانية (حرف يوناني). وفي كتاب عبد المسيح ابن اسحق الكندي جاء أنه نسطوري. إذاً: نسطوري اسمه سرياني. إسما والديّ صفرونيوس الدمشقي بطريرك القدس (634 – 638) سريانيّان. إسم جدّ يوحنّا الدمشقي “منصور” عربي. في مجمع محاربي الإيقونات (754) ورد اسم الدمشقي “منصور” على اسم جدّه، بينما اسم أبيه سرجون سرياني. الإمتزاج اللغوي في سوريا واسع. وكان الناس فيها يصلّون باليونانيّة والسريانيّة. ويذكر ثيئوذوريتوس أن الأديرة كانت تصلّي بالتناوب باليونانيّة والسريانيّة، وذلك في كتابه المترجم “أصفياء الله” عن الرهبنات السورية في محافظات إدلب وحلب والرقّة والحسكة الحاليات تقريباً لا حصراً. والحارث العربي حاور افرام أنطاكيا باليونانية (باباذوبولوس ص 370)[4]. فحين الفتح العربي، سوريا مقسومة إلى أرثوذكس ويعاقبة ونساطرة دون تمييز لغوي. كلّهم سوريّون سواء صلّوا باليونانية أو السريانية. كان لدى ثيئوذوريتوس 800 رعية. كان يعظ بالسريانيّة، إنما لا يكتب إلاّ باليونانية. ويذكر أن له 35 مؤلّفاً. والجدير بالذكر أن بطريركية السريان اقتصرت على ما نسمّيه بطريركية أنطاكيا، فلم يكن لها بطريركيّة في أورشليم القدس. وفي القرن العاشر اتفق الأمبراطور نيكيفوروس فوقاس مع اليعاقبة على الإنتقال إلى مناطق الثغور الخصبة في ديار بكر وماردين وسواهما. ولكن المؤامرة الإنكليزية-الفرنسية سلّمت تلك المناطق الخصبة وكيليكيا إلى تركيا، فهاجر السريان والأرمن منها. ثمّ سلّما لواء الإسكندرون فهاجر المسيحيّون. وكان الأرثوذكس معظم سكان أنطاكيا قطعاً.
في العام 410 نظم القديس ماروثا أسقف مارتيروبوليس (ميافارقين) الكنيسة الفارسية. كان يجيد اليونانية والسريانية ويقوم ببعثات بين دولتي الرومان والفرس، فحظي في قصر فارس بمكانة مرموقة، فسُمح له بجمع عظام شهدائنا هناك، فحملها إلى قصبته، فسمّيت باليونانية (لا بالسريانية) مرتيروبوليس (مدينة الشهداء). وكتب حياة الكثيرين منهم، فنشرها بالفرنسية لابور وترجمها إلى العربية وطبعها أحدهم في العام 1906. ولدى قدس الأب توما بيطار فوتوكوبي من هذا الكتاب لاستعماله في سنكساره الكبير. كلّنا سوريون مقيمون على الأرض السورية. ليس من عرق صافياً في العالم. سوريا ممرّ الفاتحين منذ آلاف السنين. الأمبارطوريات الفارسية واليونانية والرومانية والأموية والعباسية والعثمانية مزجت آسيا بأوروبا وأفريقيا. عرفتُ في ضاحية باريس عائلة فرنسية تسمّى “بن تيبير”. الإسم عربي “إبن الطبري” الناس جميعاً من نسل آدم وحواء رغم أنف أهل التمييز العرقي بين البشر.
ومن الضروري أن أذكر أنّ التحسّس من العرق اليوناني اليوم وأمس وغداً لا يطول اللغة اليونانية لأنها لغة التراث المسيحي في مشارق الأرض ومغاربها. الأب Guy في العدد 387 من الينابيع المسيحيّة يرجّح أن أقوال الشيوخ الرهبانيّين المصريّين قد دوّنت باليونانية في فلسطين أولاً، بالرغم من أنهم في معظمهم فلاحون مصريون يجهلون اليونانية. وقد ترجم الأب منيف حمصي أقوالهم عن اليونانية مرتبةً أبجدياً. أما “بستان الرهبان” الذي نشره الأقباط فمرتب موضوعياً، مثل العدد 387 أعلاه.
الخلاصــــة
اعتراف المونوفيسيت بالمجامع السبعة المسكونية (325 – 787) يدلّ على أن كنائسنا تمثّل الإيمان الأرثوذكسي الواحد قبل العام 451 وبعده حتى اليوم. وهو في الأساس يوناني منقول إلى السريانيّة والأرمنيّة. لم تستطع صروف الدهر أن تبدّله. هناك رواسب سيصفّيها اللاهوتيون الروحانيون الصادقون القويمون بدون نفاق ومسايرة على حساب الحقيقة. قال معاوية ابن أبي سفيان لبدوي من جماعة علي: “…سأحاربنّه بمائة ألف ليس فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل” (ابن المسعودي، مروج الذهب 31:3 من طبعة دار الأندلس): فلا تشويش ولا اعتباطية، بل تفريق بين الناقة والجمل لتأتي الوحدة مع غير الخلقيدونيّين، ومع روما وأتباعها، ومع اللوثريّين وحدة صحيحة صادقة بريئة من جميع الشوائب. وهذه مهنة اللاهوتيّين الروحانيّين العميقين المستقيمين في القرن الواحد والعشرين. في “سرّ التدبير” تنويه بما قاله الإختصاصيّون في تلوّن الأساقفة خلال الأزمات القديمة. حياة الأسقف محفوفة بالأخطار. أنداد باسيليوس والذهبي نادرون. على الأسقف أن يكون شهيداً حياً. ولكن أين هذا الأسقف؟ الشعب لا يدعو الأسقف إلى الإستشهاد بل إلى رخاء العيش، ورخاوة الإرادة، وفتور العزيمة، والأبّهة، والبذخ الباطل… أصلحنا الله.
التاريخ الجديد الفرنسي يهزأ من الأساقفة كما هزئ منهم تكسيرون وفليش ومارتن (سرّ التدبير). ذكر أن جميع الأساقفة كانوا أرثوذكساً مع الأمبراطورين ماركيانوس ولاون. ثم وقّع 500 وربما 700 منهم لفاسيليسكوس المونوفيسيتي الذي أجرى انقلاباً قصيراً ضدّ زينون. ولما سقط عادوا جميعاً تقريباً إلى الأرثوذكسية (399:1 – 400): التاج والعكاز والطيلسان والمال والسيارة أغلى من يسوع والحقيقة.
22- أبرشيات الكرسي الأنطاكي لاحقاً
كتبتُ عنها في “موجز التاريخ الأبيض للكرسي الأنطاكي”. إنما ألاحظ على ذلك النصّ أنّ لائحة العام 1143 تدلّ على انتشار الأرثوذكس الواسع في الشمال والشرق:
1- 8 أسقفيات في ديار بكر، بينما كان الأمبراطور قد أقطعها السريان في القرن العاشر.
2- 10 أسقفيّات لداره.
3- 11 أسقفيّة للرها (أورفه).
4- 9 أسقفيّات لمنبج.
5- 5 أسقفيّات للرصافة.
6- 9 أسقفيّات لكيليكيا.
7- 20 أسقفيّة لبصرى.
8- 13 أسقفيّة لصور.
9- في لائحة 570 كان العدد 154. في 1143 صار العدد 171
10- ديار بكر وداره والرها ومنبج والرصافة مناطق شرقيّة تجاور العراق هي أقصى شرق سوريا. فيها 48 مطراناً وأسقفاً بالرغم من التجمّع على الساحل في القرن العاشر. ولبصرى مطران و20 أسقفاً. هي العمق السوري جنوباً المجاور لفلسطين والحجاز والعراق. أما صور فكان لها 13 أسقفاً، ومطران واحد: أي 3 زيادة على داره
و2 على الرها. إذاً: بقينا أقوياء في شرق سوريا الشمالي.
هذا يدلّ على كثافة الأرثوذكس في العمق السوري. في كتابي “قديسون من حمص” أثبتُ أن حمصاً كانت دوماً قلعة أرثوذكسيّة وأن السريان فيها من صدد. ففي القرن العاشر اكتظّت السواحل بالأرثوذكس وفي العام 1143 رأينا أعلاه أن العمق السوري أيضاً مكتظّ بهم من ديار بكر شمالاً حتى الحدود الحجازيّة جنوباً. حتى في القرن السابع عشر كانت سلوقية (سلفكية) إيسافريا ما تزال تابعة لمطرانية باياس في كيليكيا (رستم 62:3). إيسافريا ليست سورية. وهناك كاثولوكيسان في جيورجيا وبخارى. وبغداد تابعة للكرسي الأنطاكي. في فيمي البطريرك يقال: “فلان بطريرك مدينة الله أنطاكيا العظمى. سوريا والعربية (بصرى… وجورجيا وسائر المشرق…”. فأرثوذكس إيران يتبعون اليوم مطرانية بغداد والكويت وتوابعهما.
آفاق الكرسي الأنطاكي مسكونيّة لأن له جذوراً في كل العالم المسيحي.
[1] بين حيفا ويافا. البعض يقول إنه أسقف يافا. مترجم باباذوبولوس توهّم أن قيصريّة المقصودة هي قيصرية جبل الشيخ (ص 381) أي بانياس.
[2] ربما اهتدى افرام بسلفيه يوحنا وفلافيانوس. كان بروكلوس القسطنطينية قد جرّد حملة مماثلة ضدّ ثيوذوروس المصيصة وورّط الأمبراطور فيها. وكتبا إلى أساقفة أنطاكيا، فشجبوا نسطوريوس ولانسطورية ورفضوا شجب إنسان مات على إيمان وتقوى. وكتب يوحنا إلى كيرللس، فكتب هذا إلى بروكلوس داعياً إلى الهدوء. ولكن هيباس الرها صخب (رستم 324:1 – 325). فالأزمة السورية بين سوريين تورّط فيها الأمبراطور الضعيف. أما فلافيانوس أسقف أنطاكيا (381 – 404) صديق الذهبي، فقد كتب مندّداً بتكفير الناس الذين رقدوا في سلام مع الكنيسة. ولم أعثر على خطبته الآن لأستشهد بها حرفياً.
[3] وقع سهو في ترجمة باباذوبولوس (ص 384 السطران 12 – 13) ينبغي تصحيحه كما أعلاه.
[4] وهذا دليل على انتشار اليونانية بين عرب الشام، حتى صار منصور زعميها وابنه وحفيده علماء اليونانية. كتاب “العرب على حدود بيزنطيا وفارس” يذكر أن اليونانية كانت معروفة بين عرب الشام.