في اليوم الاول من السنة الجديدة الواقع في الواحد من شهر كانون الثاني يصادف ثلاث مناسبات منها بدء السنة المدنية العالمية ، والمناسبة الثانية والثالثة هما عيد ختان المسيح وعيد القديس باسيليوس الكبير . لا بد من الكلمة والتوقف عند هذه الاعياد .
راس السنة المدنية :
كثيرا ما يرافق لقاء العام الجديد ، لا اثر له في التقويم المسيحي ، عند المسيحي كفر والحاد وافراط وعدم اعتدال ، ظانين انه إذا امضوا يومهم الاول من السنة وهم فرحون فالسنة كلها ستمضي كذلك . اما الافراط وعدم الاعتدال فلان الجميع رجالا ونساء يحتسون الخمر حتى الصباح هذا السلوك ينافي حكمة الروح المسيحي إذا اتبعناه إن سمحنا للاخرين ان يتبعوه .
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم :" ان عامك يكون كله سعيد ليس إذا شربت الخمر حتى تسكر ، بل بمواظبتك يوميا ما يرضي الله تعالى" .
"انظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلة بل حكماء ،مفتدين الوقت لان الأيام الشريرة هي من اجل ذلك لاتكونوا اغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب " . (افسس5: 15 -17) .
هكذا يلمنا الرسول بولس، ان نصرف حياتنا على الأرض لا كجهلاء بل كحكماء ،مطالبين انفسنا ان نفحص قلبنا في كل يوم عما عملناه،لنرى ان كنا خاسرين إن رابحين . ما اجدر على المسيحي ان يفحص قلبه في بدء هذه السنة الجديدة، ليرى ما عمله من خير في السنة المنصرمة، وليصلح ما صار عليه من فساد وانحطاط .
ألا يجب ان نسأل قلبنا هل نحن سائرون في الطريق القويم ؟ هل نحن على هدى؟ ماذا يجب علينا ان نعمل ؟ فالعاقل هو الذي يحفظ في نفسه وديعة الايمان ،ويتبع تعاليم المسيح قولا وفعلا . لان المسيح هو حياتنا واستنارتنا ، وخلاف ذلك الجاهل فهو الذي لا يحترم نفسه فيعرضها للهلاك كل حين لان الكثيرين في هذه ايام يريدون تنوير المسيحيين لا بتعاليم المسيح بل بتعاليمهم الخاصة الفاسدة والمفسدة ،وبصورهم الرديئة المغرية التي يعلقونها في بيوتهم عوضا عن صور القديسين والابرار ،وبيوتهم يغشاها دخان التبغ وسمومه عوضا عن شذا البخور وطيبه، اضف إلى ذلك العادات الكثيرة المضرة والأزياء الوقحة والرقص والخلاعة التي لم يعرفها الإنسان من قبل .
يتسأل الذهبي الفم ما هي الحفلات التي تناسب المسيحي؟ < انسمع ما علمه الرسول بولس :" فلنعيد إذا ليس بالخمير العتيق ولا بخمير السوء والخبث، بل بفطير الخلاص والحق . "(1كورنثوس5-1) ،إذا كان ضميرك نقيا فاحتفالك يدوم لانك تتعزى بالنعم الإلهية وان كنت مثقلا بالخطايا الكثيرة،فالحفلات لا تكون احسن من المآتم .. واذا بلغت اليوم الاخير من السنة فاشكر الله الذي اوصلك إلى نهاية العام، اتضع واعدد حياتك وقل لنفسك الأيام تمر وتذهب والاعوام سوف تنتهي .. فما الذي فعلته من اعمال البر؟كيف اترك هذه الحياة دون ان اتزود شيئا من اعمال الحق . >
أخيرا فلا يجب ان نسرع لنستقبل العام الجديد والكأس في يدنا بل لنستقبله بالصلاة والخشوع والدموع، دموع التوبة عن خطايانا حتى لا نعود اليها في الأيام المقبلة .
ختانة السيد :
كان الختان من الاعمال المقدسة في الكتاب المقدس ، وضعها الله لشعبه حتى يتميزوا عن الاخرين ،ويتذكروا دائما لأنهم شعب الله ،ويذلك فالختان كان بمثابة اول عهد شخصي على مستوى العلاقة الداخلية غير المنظورة بين الله وبين كل فرد من شعب الله لذا سمي عهد الختان (اعمال الرسل 7-8) .
كان الختان يستخدم في العهد القديم ليس للانسان فحسب بل للشجر ،حاسبا ان الشجرة المغروسة جديدا تعتبر غلفاء أي غير مختونة(غير مقدسة) معنويا لمدة ثلاث سنين ،وفي السنة الرابعة تحسب شجرة مقدسة بعدما يقدم كل ثمرها للرب كتقدمة شكر ، وفي السنة الخامسة تحسب حلالا على الانسان .
أم عملية تحويل الشجرة من غرس ارضي إلى غرس سموي مقدس، تشبه عملية جحد الشيطان كالذي يحتمه الطقس في المعمودية ، تنتقل به الخليقة من معسكر الشيطان إلى معسكر الله .
قد اقترنت الختانة بأخذ الاسم الجديد، الذي يلزم ان يكون مطابقا لاسم احد افراد اسرته امعانا في تبعية الطفل لشعب الله .
فالاختتان هو عملية تكريس كامل بكل الاعضاء داخليا وخارجيا، ليصير الإنسان على مستوى عهد الله وقداسة الله "سر امامي وكن كاملا" (تكوين:17-1) ،إن كما وضعها العهد الجديد على فم المسيح كونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السموات هو كامل (متى5-41) ،ولذلك اعتبر المسيح انه خادم الختان الذي تمم الختان على اعلى واكمل مستواه الروحي والجسدي معا (من اجلهم اقدس انا ذاتي يوحنا :17-19) .
مما لا ريب فيه ان المسيح لم يحتاج إلى الختان للدلالة على اتحاده مع الله لانه كان دائما في الآب ، والآب فيه وهو والآب واحد ،إلا ان القديس ابيفانوس القبرصي قال:(انه لاسباب كثيرة اختتن المسيح ، وبالمقام الاول ليبرهن على حقيقة جسده ضد المانويين، والذين ادعوا ان ميلاده كان ظاهريا فقط، وحتى يوضح ان جسده لم يكن واحدا في الجوهر مع اللاهوت كما علم ابوليناريوس ، ولا هو استنزله من السماء كما يؤكد ذلك فالتين . ضد الهرطقات 3.-23) .
كان يعطى الطفل المختون المولود ابن ثمانية ايام كل الحقوق الرعوية، إلا ان هذه الحقوق تتوقف كلها إلى ان يثبت المختون طاعته لوصايا الله ، عند بلوغه السن الذي يطالب فيه تكميل الوصايا، إذا فكانت الطاعة لوصايا الله عي التي تجعل عهد الختان قائم ودائم، هكذا كان الختان في العهد القديم روحيا بمقدار ما كان لمفهوم الطاعة لوصايا الله .
وبتأسيس المعمودية التي يتم فيه الختان الروحي للانسان ، حيث يخلع جسد الخطيئة ويلبس الجديد بالروح القدس،ويتم الختم الالهي لتبعية الله بالتحاد بالمسيح، وبهذا يكون قد لانتهى عهد الختان الجسدي ،لان المعمودية حلت عمل الختان بصورة اكمل واشمل وبأثر روحي فعال وعميق،لان الختان الجسدي الموحى به في العهد القديم لم يكن قادرا على تكميل الخلاص بل الختان بالروح القدس، بحيث تلبس المسيح ونصبح فيه وبه خليقة جديدة كميلاد ثان ،ونكون مع رعية القديسين اهلا وأحباء في بيت الله ، وملوكا وكهنة مع المسيح لله .
قديس كبادوكيا الاول :
في مطلع عام 379 ميلادية فقدت الكنيسة ركنا من اركان الارثوذكسية وعلما من اعلام الفكر المسيحي والعالمي، اول معلمي المسكونة الثلاثة العظام ،هو القديس باسيليوس (الكبير) ومع انه غادر هذه الدنيا وهو بعد في معترك
الحياة وميدان الجهاد ،اذ لم يتجاوز التاسعة والاربعين من عمرع، فقد كانت حياته ذاخرة بالمآثر والاعمال البطولية على مختلف الاصعدة الروحية والفكرية والاجتماعية.
ولد القديس باسيليوس سنة 329م في قيصرية الكبادوك(آسية الصغرى)،من عائلة مسيحية تقية اقتبس فيها التقوى والفضلية والسيرة الحسنة . كان ابوه(باسيليوس) استاذا للخطابة وموظف كبير في حكومة مدنيته،وكان لوالدي القديس باسيليوس عشرة اولاد ، اربعة شباب وست بنات اشتهر منهم خمسة بالقداسة والفضلية: باسيليوس الكبير رئيس قيصرية الكبادوك ، نفكراتيوس الناسك في جبل نيطرتيا ، غريغريوس اسقف نيصص، بطرس رئيس اساقفة سيفستية ، مكرينا اخته الكبرى التي اصبحت راهبة باسم مكرينا الصغيرة. لقد نما وترعرع هؤلاء القديسون في كنف والديهما وخاصة بارشادات امهم امليليا واختهم مكرينا التي كانت بمكانة معلم وام ثانية، وكان جد القديس باسيليوس لامه شهيدا في المسيح ،وأيضا جده لابيه كان قد نفي وصودرت املاكه بسبب تمسكه بالمسيح، اما جدته لابيه فكانت القديسة مكرينا الكبيرة التي كانت تلميذة للقديس غرغوريوس الكبير العجائبي .
فقد درس باسيليوس الفلسفة الافلاطونية الحديثة وتضلع فيها، ولكنه كان يفحص كل شيء بفكر المسيح الذي وضع فيه الايمان حسب قول الرسول بولس "امتحنوا كل شيء وتمسكوا بما هو حسن" . كانت فلسفة عصره من مصدر غير مسيحي، إلا ان باسيليوس فهم ان الإنسان بالنظر لصورة الله الباقية فيه رغم سقوطه،إذا سعى باخلاص إلى حقيقة لا بد له ان يحصل ولو على اجزاء منها ، وان كان سيعه غريبا في الظاهر عن خط المسيح فهم ان كل ما هو حق وعدل وخير وجمال في الكون وفي الفكر البشري،ولو بدا خارجا عن المسيح هو في الحقيقة وفي الاعماق منه وفيه وله .
هكذا عمد باسيليوس فلسفة عصره وسكب في تعابير مضمونة ايمانه،فتمكن من نقل هذا الايمان إلى معاصريه باللغة التي كانوا يألفونها ، مغلقا الحقيقة الابدية بقالب العصر لكن باسيليوس لم يكتف بالعلم بل كان رجل عملي مثمر خلاق ،فقد رعى ابرشية الكبادوك وسهر عليها ، فاهتم بشؤونها الروحية ودافع عنها دفاع الابطال ضد الاريوسية والمقدونية وتعرض للسجن والنفي دون مهابة، واهتم بشؤونها المادية لا ليكسبها امجادا زمنية، بل ليتهم بمساكينها وبؤسائها اهتمامه بالمسيح نفسه الذي وجد نفسه معهم .
لذلك قام بعمل اجتماعي واسع النطاق، فأسس المستشفيات للمرضى،والبيوت لاستقبال الفقراء والملاجىء للمسافرين والغرباء . لقد بنى في قيصرية كبادوك مدنية اجتماعية دعيت (bassillias) (الباسيلية)، كانت مجموعة من ابنية ومؤسسات للخدمة وقد انفق على كل هذه الاعمال كل ثروته .
آمن باسيليوس بالكرامة الانسانية التي تجعل من الفقير اخا للغني ومساويا له امام الله، وهذه الكرامة تحل للغني اقتناء الممتلكات لكنها اضعه امام وجوب مساعدة الفقير ، فالمالك ليس إلا وصيا عاى ما يملك ويشدد قديسنا على ان مصائب البشر لا تأتى إلا من حب الانانية والبخل ، والغنى في حد ذاته لا عيب فيه غي ان سرعان ما يولد في نفس الإنسان رذائل شتى يدعما حب الذات مكن جهة والبخل من جهة أخرى .
دعا إلى رفع امراة وساواها بالرجل وطالب بحق الجنين في الحياة واستقبح باسيليوس تشريد الاطفال وابدى رأيه في مجال الديون وتسديد المال ، فقبح من يتعاطى الربا الفاحش، ولفت النظر الناس إلى ضرورة الاستدانة احيانا بدون فائدة، وكان يعتقد ان العمل واجب على كل فرد في المجتمع.
لم يكن اصلاح باسيليوس الرهباني واللتورجي اقل اهمية من اصلاحه الاجتماعي، لان فكره وعمله كانا مستمدين على السواء من مناجاته لله، وتأماه في عظائمه واحكامه، ذلك ان الإنسان لا يكشف الله بل الله بالاحرى يكشف نفسه للانسان إذا قبل الإنسان الله في اعماقه واقام معه شركة حب :"من احبني يحبه ابي وأنا احبه واكشف له ذاتي " .
عاش القديس حياة التأمل والصلاة واسس رهبنة ووضع له قانونا استلهمه الرهبان من بعده شرقا وغربا ، وكان يعبر عن خبرته عندما كتب إلى صديقه غريغوريوس:" هل من بركة اسمى من ان ترافقنا الصلاة بعد شروق الشمس وعودتنا إلى اعمالنا وتبقى معنا حيثما ذهبنا ، ونعطي بالتراتيل المقدسة طعما لمشاغلنا كما يفعل الملح في الطعام " أيضا:" اننا نوصي بالصلاة لانها تولد في النفس فهما خاصا للعزة الإلهية ، ومعنى سكن الله فينا ان نحفظ به دائما في ذاكرتنا ، ونبني له في نفوسنا مقاما " (الرسالة الثانية من باسيليوس إلى غريغوريوس)
فما احوجنا اليوم في عصر طغت عليه السرعة والانتاج السريع فتسربت حتى إلى العمل الروحي ، ان نتذكر ان جذور كل نهضة روحية انما هي في الصلاة والتأمل ، اذ بدونهما لن ينبثق ذلك الفكر المسيحي الاصيل الحي .