"فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله " 1 )كو18:1 ( .
الصليب هو أقوى حدث في حياة المسيح بالرغم من أنه أضعف موقف من مواقف الرب على الأرض – فهو الذي يقول عنه الرسول بولس " صُلب من ضعف " (2كو4:13) – تلك هي لحظة الإخلاء العظمى التي بلغ فيها المسيح أقصى حدود الهوان عندما عُلِّق على خشبة الصليب. لأنه معروف أن كل من يُعلَّق على خشبة هو ملعون بحسب الناموس القديم (تث23:21). لذلك فالقديس بولس الرسول يقول إن المسيح – بسبب الصليب – صار لعنة لأجلنا وخطية لكي نتبرر به (غل3:3).
لذلك إذا تأملنا الصليب ، فنحن نتأمله كقوة محوِّلة، حوَّلت الموت إلى حياة " بالموت داس الموت " – حوَّلت اللعنة الزمانية إلى بركة أبدية، حوَّلت الخطية إلى بر، حوَّلت العداوة إلى محبة، والظلام إلى نور أشرق في قلوب الجالسين في الظلمة وظلال الموت إشراقاً لاينطفيء ! فكل نور يُرى بالعين يمكن أن ينطفىء، أما نور الله إذا أشرق في القلوب فلا توجد قوة في العالم يمكن أن تطفئه: " الذي قال أن يشرق نورُّ من ظلمٍة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح " (2كو6:4).
نرى بوضوح إذن أن الصليب قوة جديدة دخلت العالم وأقوى من كل مافي العالم. حوَّلت السلبيات التي كان يرزح تحتها الإنسان إلى إيجابيات ينعم بها.
فإن كان الصليب من الخارج هوانا ولعنة، فهو في الداخل مجد وبركة. وهذا في الواقع يعبِّر عن مضمون حياتنا التي نحياها في المسيح والتي يطالبنا بها الإنجيل كل يوم: " من لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً " (لو27:14).
الصليب هنا – بالمفهوم الإنجيلي – المطلوب منا أن نحمله كل يوم على أكتافنا كنير ثقيل، هو في حقيقته قوة حاملة للإنسان وليس ثقلاً عليه، يحوِّل الموت الذي تملَّك الجسد بسبب الخطية إلى قيامة وحياة أبدية. الصليب نُواجه به ظلمة هذا العالم التي تسيطر على قلوبنا بسبب الخطيئة التي تقتحم حياتنا كل ساعة، لأنه معروف أن بقوة الصليب تموت النفس عن شهواتها، فيتحول الحزن والكآبة والندم إلى برِّ وابتهاج مع فرح أبدي.
وبقدر ما يكون الصليب محنة حقيقية للنفس تجوز فيها غُصِّة الموت، بقدر ما يتجلَّى الصليب عن سلام يفوق العقل.
الصليب هو أخطر خبرة مؤلمة في حياة المسيح وكل إنسان يتبع المسيح. نحن ننظر إلى الصليب اليوم معا كممارسة وحياة، ونقول إن كل من لم يعِشْ صليب ربنا يسوع المسيح، فهو لم ينتقل أو يتحرك داخلياً ليذوق معنى العبور من حياة حسب الجسد لحياة حسب الروح، الصليب آلة الفصح والقوة الخفية التي تحمل الإنسان من الموت إلى الحياة.
الصليب حركة داخلية وقوة محوِّلة، والذي لم يدخل اختبار الصليب لايمكن أن يفهم قول القديس بطرس الرسول "لأُخبر بفضل الذي دعاني من الظلمة إلى نوره العجيب " (1بط 9:2 ). وهو لايعرف كيف يحوِّل عداوة الناس المقدَّمة له مجاناً إلى محبة، والحزن الذي يضغط به العالم على قلبه إلى فرح.
أما من ارتضى أن يدخل في اختبار صليب المسيح، كنير يعيشه كل يوم بكل خسائره عن مسرة، هذا يعرف كيف تتحول الظلمة إلى نور، والحزن إلى فرح، والعداوة إلى حب، والضيق إلى مسرة وسلام.
لا يوجد في الحياة فرحاً بالعمق والثبوت والإمتداد كالفرح الذي ينشأ من إجتياز محنة الصليب، حينما يُوضع على كتفي بيد المسيح الحانية بصورة ظلم فادح أو إضطهاد أو ضيق أو إفتراء أو مهانة في أي شيء وبيد أي من كان، صديق أو عدو، أو زميل أو رئيس أو من الشيطان نفسه… لايوجد في العالم كله ما يعادل فرح الصليب ! " ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلَّموا بإسم يسوع ثم أطلقوهم، أما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل إسمه " (أع5: 41:40).
أنواع كثيرة من الفرح في الحياة… إن فرح التأمل شيء شهي جداً، فرح الكهنوت، فرح الإنجيل، فرح التناول، فرح الرؤيا العقلية، فرح الحب الإلهي حينما ينسكب في قلب الإنسان ن الله بالروح بلا سبب، شيء لايمكن وصفه أن ينخطف الإنسان ويعيش لحظات في اللاوعي، فرح حب الإخوة كقول القديس بطرس الرسول " الحب العديم الغش من قلب طاهر بشدة " (ابط22:1)، هذه لها أفراح لايمكن التعبير عنها حيث ينخطف القلب والعقل معاً، وان فرح الصليب شيء آخر لا يُقاس بها جميعاً، لأنه الفرح الذي يستطيع أن يرفع الإنسان ليرتفع فوق نفسه. أنواع الفرح التي ذكرناها جامدة غير متحركة تأتي وتذهب، أما الفرح المتولد من عبور الألم الذي يكون على مستوى الصليب فهو يكون فرحاً متحركاً يغيِّر ويجدِّد القلب والفكر والنفس. إذ حينما تنقشع المحنة بكل خسائرها يلتفت الإنسان فإذا به قد عبر مرحلة ماقبل الصليب ليدخل مرحلة مابعد الصليب. والفارق بينهما كالفارق بين الموت والقيامة: ينسلخ الإنسان من الأشياء المحسوسة لتتجلى أمامه وفي أعماقه الأشياء غير المحسوسة، وينتقل وهو ملء الوعي لينفك من أمور الدهر الفاني.
هذا هو عجب الصليب، فالصليب هو معجزة الإنسان المسيحي التي يحياها كل يوم، هو سر المسيح. وكل من لم يدخل بعد في خبرة الصليب فهو لم يذُق بعد حلاوة المسيح ولا استمتع بعمق المسيحية.
وإذا انتبهنا نجد أن الصليب هو القالب الذي ينصبُّ فيه الإنجيل كله. فحينما يقول المسيح " أحبوا أعداءكم " (مت44:5)، يقولها على أساس أنك تحمل صليبه وتتقبل في نفسك موت الصليب بالإرادة، فإمكانية أن تفتح يديك للصالبين ليطعنوا كرامتك، او اسمك ويسلخوا كل إمكانياتك، وقدراتك، وكل مالك، هي كلها وصايا يسوع القائمة على أساس حمل الصليب بمهارة كل يوم للمسير وراء المسيح.
الصليب بحسب الواقع النظري جمود وخسران وعدم؛ أما بحسب الواقع الروحي فهو تحرك داخلي إلى أعلى، وإنتقال من حال إلى حال أسمى، وتغيير جوهري من مستوى جسدي إلى مستوى روحي، وإستبدال طبائع من مستوى بشري إلى مستوى إلهي، وبشارة عجيبة ومفرحة من موت إلى قيامة !!
لذلك نستطيع أن نقول إن الصليب كان الواسطة الأولى التي استُعلن المسيح بها أنه إبن الله، لأنه لم يكن ممكناً بدون الصليب أن تتم القيامة من الأموات بكل أمجادها، ثم أعطانا في صميم طبيعتنا هذا السر العجيب أن نصير مثله (1يو2:3) – وأيضاً بواسطة الصليب – لننال قيامة تعطينا استعلان بنويتنا لله !!
صليب<—> قيامة، هذا القانون الذي وضعه إبن الله في نفسه وفي جسده بموته على الصليب وقيامته، لذلك أصبح من غير الممكن أبداً أن يدخل الإنسان في خبرة الصليب مع المسيح بإيمان كامل إلا ويحوز علي قيامة داخلية وتغيير وحياة.
الصليب يظل محصوراً في فكر الإنسان كحقيقة لاهوتية أو مبدأ عقيدي، إلى أن يرتفع إلى المستوى العملي للصليب في حياتنا وذلك حينما نقبل حكم الموت في أنفسنا اضطهاداً أو ظلماً واعتسافاً بيد الطغاة أو نسلِّم أنفسنا بإرادة حسنة للموت الإختياري، كما يقول القديسون، أي ندخل في أعماق الإماتة لنموت عن أنفسنا وشهواتنا. حينئذ تبدأ حقيقة الصليب تتجلى في حياتنا كخبرة مضيئة وقوة رافعة.
فالإنسان الذي يرفض أن يموت بإرادته عن العالم، ويجزع من أن يَصلِب أهواءه وشهواته وأعضاءه – من أجل المسيح – هذا الإنسان يظل غريباً عن حقيقة الصليب. ربما يكون دارساً مدققاً لمعاني الصليب اللاهوتية متقِناً لمفهوم العقيدة نظرياً وفلسفياً، ولكن الصليب كحركة داخلية وقوة ترفع الإنسان من مستوى عجز الإنسان إلى مستوى تقديس الله، هذا يبقى شيئاً مخفياً عن عين الإنسان وعقله.
لهذا فالصليب لا يمكن أن تُكتشف قوته الإلهية إلا عند قبول الموت أو الإماتة. وهكذا يظل الصليب جهالة ورعبة وموتاً جاهلاً لا يستطيع الإنسان أن يقترب منه، إلى اللحظة التي فيها يكشف الروح للإنسان عن سر مجد الشركة في صليب ربنا يسوع المسيح، حينئذ تدفع النعمة الإنسان في طريق الصليب ليذوق – في شجاعة – معنى الموت المحيي مع المسيح. وحينئذ يتجلى الصليب كحكمة الله وقوة الله للخلاص.
لذلك فالصليب لا يُحسب أنه صليب طالما نحن نعيش في اكتفاء وراحة مهما بذلنا وسط المحبين، لأنه إن كنا نحب ونبذل من أجل الذي يحبنا فهذا ليس هو حمل الصليب، كقول الإنجيل " فأي أجر لكم " (مت46:5)، إنما هذا يُحسب محاولة للدخول في حياة إنجيلية وحسب، ولكن عندما ننجح في تقديم البذل مع الرافضين وغير الشاكرين بل والناكرين لعمل البذل والمحبة، ومع الذين يردون على الخير بالشر؛ فهذا هو الصليب حقاً. لأنه معروف أن أصدق علامة لحمل الصليب هي أن يكون البذل والإماتة والخسارة عن رضى وحب وسرور، بمعنى أن أفقد بالفعل ذاتي وأنكرها، ذاتي التي تطلب الشكر والمديح ورد الجميل. هنا تبدأ فعلاً صورة الصليب، حيث لا يكون عائد كرامة أو شكر أو ربح من أي نوع، بل على النقيض نكران وهجران وعداء وإعتداء.
يلاحظ هنا أن مواصفات الصليب مأخوذة من مشهد الجلجلة ومحاكمة المسيح بعد حياة كلها بذل وحب. فالمسيح لما ابتدأ على أساس المحبة والبذل يعمل ويعلِّم، احتج رؤساء اليهود وتعالت أصوات رؤساء الكهنة بالإستنكار لعمله وتعليمه، والبذل والمحبة رُفِضا، لكن المسيح استمر في عمله وتعليمه ينزل إلى الأسواق يشفي الأعمى والأعرج والكسيح والأبرص وكل مرض وعلة في الشعب، ويؤدي واجبات جليلة لخراف بيت إسرائيل الضالة التي جاء ليصنع لها خيراً… واستمروا هم أيضاً في رفضهم بشدة وصادروه وقاوموه في كل مكان !! وبالرغم من ذلك، ظلَّ يصنع خيراً عن فرح ورضى داخلي حتى إلى الصليب.
وهكذا يكون المسيح قد أعطانا المواصفات الإيجابية للصليب وماهو قبل الصليب، أي نعمل عن مسرة حتى ولو كان عملنا مكروهاً وبذلنا مرفوضاً.
أما الخطوة الحتمية التي تلي ذلك، فهي أن المسيح بدأ يفقد كل المواقف، ويُهاجم بشدة -خاصة في الأيام الأخيرة- ويُحاصر من جميع فئات رجال الدين، وتُلفَّق له التهم وشهادات الزور عن حقد مريع، وهكذا بدأت تتشكل الصورة الدموية للصليب. أما السر الأخير للصليب فهو الموت على الصليب. لذلك فالمسيح لما أكمل الموت على الصليب أعطانا سرّ الصليب وقوة موته كاملة، بل وكل ماهو قبل الصليب من صبر وإحتمال على الموت، أعطاه لنا كخبرة ممكن أن نمارسها كل يوم. وهذا يعتبر من أهم معجزات ومواهب الحياة المسيحية. فبالإيمان بالمسيح نأخذ أشياءً لم نعلمها كأن نصير شركاء الصليب ووارثين لبركاته دون أن نُصلب فعلاً، وهكذا نأخذ حقوقاً لا نستحقها، ونأخذ مواهب لا ندفع ثمنها.
وقـوة الصليب هي من أهم هذه الحقوق والمواهب: " مع المسيح صُلبت " (غل20:2)، أي أن المسيح حينما صُلب عن العالم أعطانا أن نحصل على هذه الموهبة عينها بالإيمان، فصارت في متناول حياتنا. ليس فقط أن نبذل من أجل أحبائنا أو نفقد إزاء مضطهدينا وأعداءنا، بل أن نموت أيضاً بإرادتنا عن العالم كحقيقة نستطيع أن نمارسها بقوة صليب المسيح.
فـالصليب يُحسب لنا صليباً، إذا استطعنا أن نمتد من البذل من أجل أحبائنا إلى البذل من أجل أعدائنا، ثم إلى الخسارة بإصرار وبرضى، وبإستعداد الموت من أجل أحبائنا وأعدائنا معاً.
إذا استطعنا أن نضع هذا الحق نصب أعيننا كمسيحيين فنحن نكرم عيد الصليب وذكرى الصليب وخشبة الصليب، لأننا بذلك نأخذ من المسيح سر الصليب كحقيقة نمارسها بالحب. إن كان لنا هذا الإستعداد: أن نبذل من أجل أحبائنا وأعدائنا ونخسر كل شيء في حياتنا باستعداد الموت، فنحن نستطيع أن نتجاوز مرارة الصليب إلى مسرة القيامة.
ولكن الصليب بالكلام سهلُّ، أما الحقيقة فمُرةُّ…
فالصليب ليس ضحكاً أو مسرة، الصليب غُصَّة ومرارة قاتلة. حينما قدموا للمسيح خلاً بمرارة (مت34:27)، هذا كان لكي يُذكِّرنا دائماً بالإحساس الداخلي الذي كان يَعبُره وهو على الصليب: مرارة الموت.
الكلام عن الصليب لاهوتياً ووعظياً لذيذ وسهل ومنطقي، ولكن كتجربة، حينما ندخل فيها نجدها علقماً.
حينما نجوز الآلالم – من أي نوع – ولا يبدو لها نهاية، حينئذ تبدأ المرارة ورعبة الموت. ولكن كل ضيقة نجوزها، وكل ظلم أو مرض نجوزه ونرتضيه حتى إلى حدود الموت فإنه يُحسب لنا في الحال صليباً وشركة حقيقية في صليب المسيح.
وأعود مرة أخرى لأقول أن البذل من أجل الإخوة أو الأحباء أو الأصدقاء، هذا بذل محبة، ليس له ثمن، لأن ثمنه مردود لك في حينه فهو محبة وليس صليباً، لأنه ينشيء فرحاً ومسرة للنفس فثمنه فيه. أن تحب أخاك أو تسلِّم عليه فأي فضل لك؟! ولكن المحبة تبدأ تُحتسب أنها تسير على درب الصليب على نمط الجلجلة، حينما يبدأ البذل أن يكون مرفوضاً والمحبة تُرد إليك عداوة وخسارة، والبساطة والتودد يُقابل بالحقد والإنتقام.
ولكن لاغنى لنا عن خبرة الصليب والسعي وراء حمله وصية الرب، لأنه إن لم يَصِر الصليب – أي الموت عن العالم – في حياتنا حقيقة مقبولة وطريقاً مُشتهى، فسنبقى بعيدين كل البعد عن سر القيامة والحياة الأبدية. فالحياة المسيحية كلها هي حركة مستمرة للإنتقال من الحياة حسب الجسد إلى الحياة حسب الروح، وذلك لايتم إلا من خلال الصليب.
على أن الصليب وإن كان خارجه أو بدايته خوف أو مرارة، فعاقبته نصرة حتمية وسلام وفرح لايوصف. فعندما ندخل في ضيق – أي ضيق من أي نوع – ونتذكر الصليب الذي صُلب عليه ربنا يوع المسيح، ونضعه أمامنا هدفاً لنا، تتحول الضيقة المرة إلى بركة وسلام فيه، وتتحول الخطية إلى إحساس بالتبرير فيه، والعداوة تزول ويحل محلها مصالحة وصفح أمام المسيح والآب فيه
إذن، فلننتبه جداً حينما يداهمنا الضيق، لأننا عندما نجوزه برضى ونتقبَّله كما تقبَّله المسيح على الصليب كإرادة الآب عن رضى وسرور داخلي؛ ننال قوة من الصليب ونبدأ ندخل في التحول، ونذوق كل مجد مابعد الصليب، ونذوق النور والحق والحياة من خلال الحزن والألم والضيق.